مفهوم (الطبقية) مفهوم معاصر، ظهر بقوة في الأدبيات الماركسية، وهو مفهوم يدل على وجود تفاوت طبقي في المجتمع، سواء أكان هذا التفاوت اقتصاديًّا أم اجتماعيًّا.
الموقف من الطبقية
تباينت المواقف البشرية من هذه الظاهرة الإنسانية، فذهبت الماركسية إلى إنكار مفهوم الطبقات على مستوى التنظير، ودعت إلى إلغاء الفوارق بين الناس على مستوى التطبيق، واعتبرت أن هذا التفاوت يستدعي صراعًا على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع، وقررت أن (الصراع الطبقي) هو الحاكم والمتحكم في علاقات الإنسان على المستويات كافة؛ ومن ثم رأت أن (الصراع الطبقي) صراع حتمي في المجتمعات، ويفضي في النهاية إلى زوال الطبقات من تلك المجتمعات، وسيادة طبقة واحدة هي طبقة (البروليتاريا = طبقة العمال).
والرأسمالية تعاملت مع هذه الظاهرة من منظور آخر، فهي من جانب أقرت هذا التفاوت على مستوى التنظير، وعملت على ترسيخه على مستوى التطبيق، فأطلقت للأفراد حرياتهم دون قيد أو شرط، وجعلتهم المالكين الوحيدين لما يكتسبون، ولا حق فيه لغيرهم. ومنعت الدولة من القيام بأي تدخل في سلوك الأفراد، واعتبرت أن سيطرة القوي على الضعيف والغني على الفقير هو القانون الذي يحكم المجتمعات والعلاقات بين الناس.
موقف القرآن من ظاهرة التفاوت الطبقي
المتأمل في القرآن الكريم يقف على العديد من الآيات القرآنية، التي ألمحت إلى ظاهرة التفاوت الطبقي بين الناس؛ من ذلك قوله تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء:32)، وقوله سبحانه: {والله فضل بعضكم على بعض في الرزق} (النحل:71)، وقوله تعالى: {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض} (الإسراء:21)، وقوله سبحانه: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات} (الزخرف:32)، فهذه الآيات ونحوها تقرر حقيقة واقعة وهي أن الله سبحانه قد فضل الناس بعضهم على بعض بشتى أنواع التفضيل؛ فضلهم بالرزق فمنهم الفقير ومنهم الغني. وفضلهم بالجسم فمنهم القوي ومنهم الضعيف. وفضلهم بالعقل فمنهم العالم ومنهم الجاهل. وفضلهم بالشكل فمنهم الجميل ومنهم القبيح، وفضلهم بالدين فمنهم مؤمن ومنهم كافر. وفضلهم بالأخلاق فمنهم حسن الخلق ومنهم سيء الخلق.
إذن، القرآن الكريم يقرر ظاهرة التفاوت بين الناس. وهو إذ يفعل ذلك إنما يفعلها لحكمة يريدها سبحانه {ليبلوكم فيما آتاكم} (الأنعام:165)؛ إذ لا يمكن ابتلاء الناس إلا بهذا التفاوت، ولو كان الناس كلهم في مستوى واحد من الرزق لما احتاج أحدٌ لأحد، ولم يعد ثمة مسوغ للدعوة لفعل الخيرات، وعمل الصالحات.
ولا يمكن أن تستقيم الحياة إلا بهذا التفاوت؛ وذلك أن التفاوت ضروري لتنوع الأدوار المطلوبة لعمارة هذه الأرض {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} (هود:61)، ولو كان جميع الناس نسخًا مكررة ما أمكن أن تقوم الحياة في هذه الأرض على النحو المطلوب، ولبقيت أعمال كثيرة لا نجد لها من يقوم بها. والذي خلق الحياة وأراد لها البقاء والنمو، كما قال: {ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين} (البقرة:36)، خلق الكفايات والاستعدادات متفاوتة تفاوت الأدوار المطلوب أداؤها.
ومع أن القرآن قد أقرَّ هذه الظاهرة الإنسانية، بيد أنه -وهذا هو فيصل التفرقة بينه وبين مذاهب الأرض- لم يكتف بذلك، بل سعى للحد قدر المستطاع من هذا التفاوت. وهذا بيان ذلك:
على مستوى التفاوت الاقتصادي بين الناس، طلب من الغني الإنفاق على الفقير، ومدِّ يد العون له، كما قال تعالى: {وأنفقوا مما رزقناكم} (المنافقون:10). وهو على هذا المستوى لم يسع إلى العمل على محاربة ما فطر الله عليه الناس من تفاوت واختلاف، ولم يسع كذلك كما فعلت بعض المذاهب إلى إثارة طبقة ضد أخرى، بل وقف موقفًا متوازنًا لإقامة المجتمع على أساس التوازن بين طبقاته. فليس المقصود إفقار الأغنياء، بل مساعدة الفقراء وتأمين احتياجاتهم.
وبالمقابل، طلب من الفقير أن لا يتمنى ما فضل الله به غيره من الناس، كما قال تعالى: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض}. ومدح المتعففين من الفقراء، فقال: {يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا} (البقرة:237). وأيضًا طلب من الناس السعي في طلب الرزق والكد من أجل تحصيله، قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} (الملك:15)، وقال سبحانه: {لقد خلقنا الإنسان في كبد} (البلد:4).
وعلى مستوى التفاوت الفكري، طلب القرآن من العالِم أن يُظهر علمه، ولا يكتمه عن الناس، وتوعد من يفعل ذلك أشد الوعيد، قال سبحانه: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون} (البقرة:159). فالعالِم مطالب أن يعلم غيره، ولا يكتم علمه في صدره.
وبالمقابل، حضَّ القرآن غير المتعلم على طلب العلم، وميَّز بين العالم وغير العالم، ما يفيد مدح الأول وذم الثاني، كما قال تعالى: {قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون} (الأنعام:50)، وقال تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} (الزمر:9)، وطلب من غير المتعلم أن يسأل العالم، قال سبحانه: {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون} (النحل:43) فغير العالم مطالب بأن يتعلم ولا ينبغي أن يبقى جاهلاً.
إن القرآن قرر أن الحياة الكونية قائمة على أساس قاعدة {ومن كل شيء خلقنا زوجين} (الذاريات:49)، وعلى أساس هذه القاعدة الكلية في بناء هذا الكون، خلق الله الناس ذكرًا وأنثى، وجعل سبحانه ابتداء الرجل رجلاً والمرأة امرأة؛ وأودع كلاً منهما خصائصه المميزة؛ ليؤدي كل منهما وظائف معينة. لا لحسابه الخاص. ولا لحساب جنس منهما بذاته. ولكن لحساب هذه الحياة الإنسانية التي تقوم، وتنتظم، وتستوفي خصائصها، وتحقق غايتها عن طريق هذا التنوع بين الجنسين؛ والتنوع في الخصائص، والتنوع في الوظائف. وعن طريق تنوع الخصائص؛ وتنوع الوظائف، ينشأ تنوع التكاليف، وتنوع الأنصبة، وتنوع المراكز، لحساب تلك المؤسسة العظمى، المسماة بالحياة.
وكذلك سبحانه أقام الحياة الاجتماعية على أساس التفاوت بين الناس. والتفاوت في الأرض ملحوظ بين الناس بحسب وسائلهم وأسبابهم واتجاهاتهم وأعمالهم. وسمة التفاوت في مقادير الرزق لا تتخلف أبداً. ولم يقع يوماً حتى في المجتمعات المصطنعة المحكومة بمذاهب موجهة أن تساوى جميع الأفراد في هذا الرزق أبداً. ودولاب الحياة حين يدور يسخر بعض الناس لبعض حتمًا {ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا} (الزخرف:32). و(التسخير) -وفق المنظور القرآني- لا يعني استعلاء طبقة على طبقة، أو استعلاء فرد على فرد. كلا! إن كل البشر مسخر بعضهم لبعض. ودولاب الحياة يدور بالجميع، ويسخر بعضهم لبعض في كل وضع، وفي كل ظرف. المقدَّر عليه في الرزق مسخر للمبسوط له في الرزق. والعكس كذلك صحيح. فهذا مسخر ليجمع المال، فيأكل منه ويرتزق ذاك. وكلاهما مسخر للآخر سواء بسواء. والتفاوت في الرزق هو الذي يسخر هذا لذاك، ويسخر ذاك لهذا في دورة الحياة. العامل مسخر للمهندس، ومسخر لصاحب العمل. والمهندس مسخر للعامل ولصاحب العمل. وصاحب العمل مسخر للمهندس وللعامل على حدٍّ سواء. وكلهم مسخرون للخلافة في الأرض بهذا التفاوت في المواهب والاستعدادات، والتفاوت في الأعمال والأرزاق.
والقرآن إذ يقرر هذا التفاوت بين البشر لا يدعو إلى ترسيخ هذا التفاوت وتنظيمه، بل غاية ما في الأمر أنه يقرر الحقائق الخالدة المركوزة في فطرة هذا الوجود؛ الثابتة ثبات السماوات والأرض ونواميسها التي لا تختل ولا تتزعزع.
ونسبة التفاوت في الرزق قد تختلف من مجتمع إلى مجتمع، ومن نظام إلى نظام. ولكنها لا تنفي ما قرره القرآن عن حقيقة هذا التفاوت، الذي تقتضيه طبيعة الحياة البشرية نفسها. ومن ثم لم يستطع أصحاب المذاهب الأرضية أن يساووا بين أجر العامل وأجر المهندس، ولا بين أجر الجندي وأجر القائد، على شدة ما حاولوا أن يحققوا ذلك. وهزموا أمام صخرة الواقع.
فالقرآن الكريم -كما يقول سيد قطب رحمه الله-: "يرسي القواعد الأساسية والحقائق الكلية التي لا تضطرب ولا تتغير؛ ولا تؤثر فيها تطورات الحياة، واختلاف النظم، وتعدد المذاهب، وتنوع البيئات. فهناك سنن للحياة ثابتة، تتحرك الحياة في مجالها؛ ولكنها لا تخرج عن إطارها. والذين تشغلهم الظواهر المتغيرة عن تدبر الحقائق الثابتة، لا يفطنون لهذا القانون الإلهي، الذي يجمع بين الثبات والتغير، في صلب الحياة وفي أطوار الحياة؛ ويحسبون أن التطور والتغير، يتناول حقائق الأشياء كما يتناول أشكالها. ويزعمون أن التطور المستمر يمتنع معه أن تكون هناك قواعد ثابتة لأمر من الأمور؛ وينكرون أن يكون هناك قانون ثابت غير قانون التطور المستمر. فهذا هو القانون الوحيد الذي يؤمنون بثباته! فأما نحن أصحاب العقيدة الإسلامية فنرى في واقع الحياة مصداق ما يقرره الله من وجود الثبات والتغير متلازمين في كل زاوية من زوايا الكون، وفي كل جانب من جوانب الحياة. وأقرب ما بين أيدينا من هذا التلازم ثبات التفاوت في الرزق بين الناس، وتغير نسب التفاوت وأسبابه في النظم والمجتمعات".
والمتحصل مما تقدم، أن القرآن الكريم أقر ظاهرة التفاوت بين الناس، واعتبر ذلك من المقتضيات الملازمة لاستمرار هذه الحياة، ودعا في الوقت نفسه إلى تقليل هذه التفاوت قدر المستطاع، لكنه لم يسع إلى إلغائه؛ لأن في ذلك إلغاء لسنة من سنن الحياة، ما يعني التناقض بين ما قرره القرآن وبين السنن التي أقام الله عليها هذا الكون.