من سنن الله تعالى ـ أنه كثيرا ما يؤيد دين الحق بأناس لا يؤمنون به، وقد حدث كثير من هذا في الأيام القليلة الماضية.
من ذلك: أنني كنت في بريطانيا للاشتراك في مؤتمر إسلامي بإحدى الجامعات، فشهدتُ الضجة الكبرى التي أثارها كلام كبير أساقفة كانتربري ـ وهو لقب يلقّب به رئيس الكنيسة الإنجيلية في العالم ـ ورئيس الأساقفة هذا هو ـ بحكم منصبه ـ عضو في مجلس اللوردات البريطاني.
ألقى هذا الأسقف (وليامز) محاضرة أكاديمية نشرتها بنصها جريدة الجارديان البريطانية، ودعا في نهايتها إلى أن يتضمن القانون البريطاني بعض أحكام الشريعة الإسلامية كي يتحاكم إليها المسلمون في محاكم خاصة بهم، وذكر من بين هذه الأحكام أحكام: الزواج، والطلاق، والمواريث والمعاملات، والصلح.
لكنه كان قد قدّم لهذه المقترحات بكلام طويل عن طبيعة القانون في الدولة العلمانية، وكان مما قاله في ذلك: إن هنالك تحدّيا متناميا في المجتمع؛ هو وجود جماعات من المواطنين ليست بأقل من غيرها التزاما بالقانون، لكنها تنتمي بحكم معتقداتها إلى شيء آخر غير القانون البريطاني. ثم سأل سؤالا مهما فقال: ما الذي نفهمه ونتوقعه من القانون في الدولة العلمانية؟ وأجاب بأن هنالك خطرًا ينشأ عندما يعتقد المتدين أن انتماءه لا يكون إلا إلى جماعته الدينية (الأمة أو الكنيسة)، وأن كل أنواع الانتماءات الأخرى السياسية والاجتماعية هي نوع من الخيانة لجماعته. لكنه ينشأ أيضا عندما تحتكر الدولة العلمانية تعريف الهويات السياسية والاجتماعية. ولذلك أكد أن القضية ليست قضية خاصة بالمسلمين، بل هي قضية تهم كل أصحاب الديانات في دولة علمانية.
وما إن نشرت الصحف اليومية خبر ما اقترحه الأسقف حتى هاج الناس في بريطانيا (بلد الديمقراطية) وماجوا.
وكان من أبرز من ردوا عليه رئيس الوزراء الذي قال على لسان المتحدث باسمه: "إن القوانين البريطانية ستقوم على أساس القيم البريطانية، وإن قوانين الشريعة ليست مسوغا للخروج على القانون القومي". ثم تابعه زعيم المعارضة في نقده للأسقف. بل إن بعضهم طالب بتنّحيه. واتهمه بعضهم بعدم الإيمان، وهتف بعضهم في وجهه في أثناء أدائه خطبة الأحد في الكاتدرائية. لكن آخرين أيدوه وأثنوا عليه، وأسفوا أن يحدث مثل هذا السلوك، وعدّوه عارَا على بريطانيا.
لكن من أغرب ما حدث هو أن بعض النواب المسلمين في البرلمان البريطاني؛ كانوا ممن احتج على كلام الأسقف بحجة أنهم مواطنون بريطانيون لا يجدون حرجا من الالتزام بقانون البلاد!
اقترحت في أثناء وجودي في بريطانيا في بعض اللقاءات؛ على إخواننا المسلمين أن ينتهزوا هذه الفرصة ليبينوا للناس أن هذا الذي اقترحه الأسقف في معاملة المسلمين هو جزء من القانون الإسلامي في معاملة أهل الكتاب.
أما الناصر الثاني للإسلام فهو جرام فولرGraham fuller ، الذي قالت عنه مجلة السياسة الخارجيةoreign policy ، التي نشرت مقاله: إنه كان في السابق نائب رئيس المجلس الأمني القومي في وكالة السي آي إيه CIA ، وهو الآن أستاذ تاريخ غير متفرغ في جامعة كندية. وهو مؤلف عدة كتب عن الشرق الأوسط، منها كتاب: مستقبل الإسلام السياسي.
أحصى الكاتب في هذا المقال أهم التهم التي يوجهها الغرب ضد الإسلام: أن الإسلام هو سبب العلاقة العدائية بين الغرب والشرق الأوسط، وأنه هو سبب عدم الوصول إلى حل المشكلة الفلسطينية، وأنه سبب الدكتاتوريات في بلاد الشرق الأوسط، وأنه سبب الإرهاب، وقال: إنها كلها تُهم باطلة.. وليبرهن على بطلانها؛ طلب من القارئ في بداية المقال أن يتصور عالما لا إسلام فيه، فسيكون هنالك شرق أوسط مكون من: عرب، وفرس، وترك، وأكراد، ويهود، وبربر، وباشتون. ولو لم يكن هؤلاء مسلمين؛ لكانت المسيحية هي الدين السائد بينهم كما كانت قبل الإسلام؛ هل كان هذا سيجعل الشرق الأوسط في توافق مع أوروبا؟
كلا؛ (ومازال الكلام لجراهام) فإن أوروبا لها مطامع جيو ــ سياسية واقتصادية في الشرق الأوسط ما كانت لتتنازل عنها لأن سكانه من المسيحيين؛ فحروبها الصليبية لم تكن في حقيقتها حروبا دينية، وإنما كانت لمآرب دنيوية استُغل الدين لتسويغها.
وما كان مسيحيو الشرق الأوسط سيرحبون بمسيحيين يأتون من الغرب ليحتلوا بلادهم، ولينهبوا خيراتها، وليقسموها تقسيما يتوافق مع مصالحه. وإذاً؛ فإن موقفهم من الغرب كان سيكون كموقف المسلمين اليوم، كما فعلت شعوب غير إسلامية في أمريكا اللاتينية وفي الهند.
ماذا عن الدكتاتورية؟ وهل كان الشرق الأوسط سيكون أكثر ديمقراطية لو لم يكن مسلما؟!
لكن أوروبا غير المسلمة نشأت فيها دكتاتوريات بشعة؛ فإسبانيا والبرتغال لم تنته دكتاتوريتاهما إلا في أواسط السبعينيات، واليونان خرجت من دكتاتورية مرتبطة بالكنيسة قبل عهود قليلة. وروسيا المسيحية ما تزال في قبضة الدكتاتورية، وأمريكا اللاتينية عانت من دكتاتوريات كانت تحكم بمباركة الولايات المتحدة وبمشاركة من الكنيسة الكاثوليكية. والدول الأفريقية المسيحية ليست بأحسن حالا؛ فلماذا إذاً الشرق الأوسط غير الإسلامي سيكون أحسن؟ وفلسطين هل كانت ستختفي مشكلتها لو لم يكن سكانها مسلمين؟
كلا؛ ذلك لأن المعاملة المسيحية الأوروبية السيئة لليهود التي انتهت بالمحرقة؛ كانت ستحدث، وكانت ستدفع اليهود لأن يبحثوا عن أرض لهم خارج أوروبا، وكانوا سيعتدون على الفلسطينيين ويستولون على أرضهم. والعرب النصارى ما كانوا سيرضون بهذا الاستيلاء على بلادهم، والعراقيون حتى لو لم يكونوا مسلمين ما كانوا سيرضون بأن تُحتل بلدهم. والغرب لم يخلع صداما لأنه مسلم؛ فقد كان في الحقيقة رجلا قوميا علمانيا.
ولكن مما لا شك فيه أنه لولا الإسلام الذي وحّد شعوب هذه المنطقة وأعطاها قيما تعتز بها؛ لكان من الأسهل على الاستعمار الغربي في عالم لا إسلام فيه؛ أن يقسّم ويحتل ويسيطر على بلاد الشرق الأوسط وآسيا. وهذا هو السبب الذي يجعل الولايات المتحدة اليوم تهيج غضبا على الإسلام.
ما بال الإرهاب؟
يقول الكاتب : إن ذاكرة الغرب بالنسبة للإرهاب قصيرة. ثم يذّكرهم بأنواع من الإرهاب لم يكن للمسلمين به علاقة. اليهود لجؤوا للإرهاب في حرب العصابات ضد البريطانيين في فلسطين، والتاميل الهندوس هم الذين لجؤوا لاستعمال القنابل الانتحارية في قتلهم رئيس الوزراء الهندي راجيف غاندي، والإرهابيون اليونان قاموا بعمليات اغتيال للموظفين الأمريكان في أثينا، والإرهابيون السيخ المنظمون قتلوا "أنديرا غاندي" وأشاعوا الذعر في الهند، وجعلوا لهم قاعدة في كندا، واسقطوا طائرة هندية على الأطلسي، والإرهابيون المقدونيون كان الناس يخشونهم في بلاد البلقان عامة قبل الحرب العالمية الأولى، والفوضويون من الأمريكان والأوروبيين قاموا بعلمليات اغتيالات كثيرة وكبيرة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ أشاعت الرعب الجماعي. والجيش الأيرلندي الجمهوري ظل سنين يستعمل وسائل إرهابية مؤثرة ضد الجنود البريطانيين؛ كما فعل الإرهابيون وجنود العصابات ضد الأمريكان في فيتنام، وكما فعل الشيوعيون الماليزيون ضد البريطانيين في الخمسينيات، وكما فعل الإرهابيون "الماوماو" ضد البريطانيين في كينيا، والقائمة تستمر.
إنه ليس من شرط مرتكب الإرهاب أن يكون مسلما. وحتى النشاط الحديث للإرهاب لا يبدو مختلفا كثيرا؛ فالإحصاءات الأوروبية تقول إنه ارتكب في الاتحاد الأوروبي 498 حادثة إرهاب في عام 2006م، ارتكبت منها الجماعات الانفصالية 424، وارتكب اليساريون المتطرفون 55، وارتكبت جماعات متطرفة أخرى 18، ولم يرتكب المسلمون منها إلا واحدة.
وإذا كان الدافع للمسلمين هو كراهة الغرب وحداثته؛ فلماذا انتظروا حتى 11/9 ليشنوا هجومهم؟ ألم يكن كثير من المسلمين يدعون في بداية القرن العشرين إلى التحديث مع البقاء على القيم الإسلامية؟ حتى أسامة بن لادن لم يقل إن دوافعه لشن الهجوم هي كراهيته للتحديث؛ وإنما ذكر أسبابا أخرى.
إن كراهية المسلمين للغرب سببها السياسات الغربية ضدهم، التي استمرت مدة من الزمان، وعليه؛ فإنه إذا لم تحدث11/9 فقد كان سيحدث شيء مثلها.
ويذّكرهم أن كل الدواهي العظيمة التي حدثت في القرن العشرين، إنما أحدثتها أنظمة علمانية: ليوبولد الثاني في الكونغو، وهتلر، وموسوليني، ولينين، وستالين، وماون، وألبوت بوت. لقد كان الأوروبيون هم من أصابوا بقية العالم مرتين بدواهي"حروبهم العالمية": نزاعين عالميين مدمرين ليس لهما ما يشبه المثيل في التاريخ الإسلامي.(انتهى كلام جراهام).
وجددتُ في برنامج تلفازي فرصة قصيرة لمناقشة الكاتب في مقاله؛ فذكرت له أنه أحسن في رده على التهم الموجهة من الغرب ضد الإسلام، لكن ما أسماه بالخيال التاريخي فيه نوع من التناقض؛ وذلك لأنه بينما اقترض عالما لا إسلام فيه، افترض أوروبا كما هي الآن. لكن الواقع أن الإسلام كان من بين العوامل التي صنعت أوروبا الحديثة، ولا سيما بما أخذته منه من منهج علمي واكتشافات أخرى ما يزال كثير من العلماء في الغرب يعترفون بها.
أقول: أننا نشكر لكل من يعترف بالحق اعترافه به ودفاعه عنه، لكننا في الوقت نفسه لا نغتر فنقول: إنه يؤمن بالإسلام أو يعترف به؛ ففي كلام هذين الرجلين كثير مما لا يوافق عليه المسلم ولا يرضاه.
ــــــــــــــــــ
المصدر: أ.د. جعفر شيخ إدريس (البيان:249)