الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فقد روى مسلم في صحيحه: أنَّ بشير العدوي جاء إلى عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - فجعل يحدِّث ويقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -... فجعل ابن عباس - رضي الله عنهما - لا يأذن[أي لا يصغي] لحديثه، ولا ينظر إليه، فقال: يا ابن عباس! ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع! فقال ابن عباس: «إنَّا كنا مرَّة إذا سمعنا رجلاً يقول: «قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -...» ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا؛ فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف».
وهذا النص يفيد أنَّ العلماء والأئمة كانوا يتثبَّتون أشدَّ التثبُّت في تلقِّي العلم، ويتحرَّوْن في نَقَلته ورواته، وبخاصة بعد أن ظهرت الفتن وكثُر الابتداع، ولهذا قال محمد بن سيرين: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد؛ فلما وقعت الفتنة قالوا: سمُّوا لنا رجالكم؛ فيُنظَر إلى أهل السنَّة فيؤخذ حديثهم، ويُنظَر إلى أهل البدع ولا يؤخذ حديثهم»[مقدمة صحيح مسلم].
وقال ابن سيرين أيضاً: «اتقوا الله يا معشر الشباب! وانظروا عمن تأخذون هذه الأحاديث؛ فإنها دينكم»[الجرح والتعديل2/15].
فإذا كان ذلك الحرص في تلقِّي العلم في القرن الأول وأعلامُ السنة عزيزةٌ مرفوعةٌ؛ فكيف في هذا العصر الذي اندرست فيه معالم السنَّة، وكثُر فيه أهل الأهواء؟
إنَّ ثمة حقيقة لا شك فيها؛ وهي أن الساحة الإسلامية تشهد فوضى فقهية تَطاوَل فيها بعض أدعياء العلم وأنصاف المثقفين على الفتوى؛ فراحوا يخوضون فيها بـدون ورع أو تثبُّت، بـل تجـرؤوا على المسائل الكبار التـي لو عُرِضت على عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لجمع لها أهل بدر[أدب المفتي والمستفتي 76].
والعجيب أنَّ بعض الناس عندما تراجعه في بعض تلك الفتاوى والآراء، يبادرك بضرورة اتساع الصدر للرأي المخالف؛ لأنه ما زال العلماء يختلفون ولا يُنكِر بعضهم على بعض!
وهذا حق لا شك فيه لو أنَّه صادر عمن يحق له الفتوى والاجتهاد من أهل العلم الراسخين. أما وإنه صادر في أغلب الأحوال عن غير أهله؛ فكيف يراد منا أن نعذر فيه المخالف؟
ونحسب أن بعض المفتين في هذا الزمان أحق بالسجن من السُّرّاق![قاله ربيعة بن عبد الرحمن كما في أدب المفتي والمستفتي 85].
والأخطر من هذا: أن بعض محاضن الصحوة الإسلامية لم تسلم من هذه الفوضى الفقهية والمنهجية. وإذا كان المربون وروَّاد العمل الدعوي يتحدثون في وقت مضى عن الموازنة بين العزائم والرُّخَص؛ فإن بعض المعاصرين تجاوزوا الرُّخَص إلى الوقوع في بعض المنكرات الواضحات بحجة الواقعية، وتغيُّر الزمان، وعموم البلوى، وضرورة تقديم المصالح الدعوية، وإعادة قراءة مقاصد الشريعة، ونحوها من المعاذير الباردة التي أوجدت مناخاً دعوياً مهيّأ للتفلت من القيود الشرعية. ولا نبالغ إذا قلنا: إن بعض الدعاة أصبحوا لا يتورعون عن ممارسة بعض المناورات السياسية والحزبية، ويقع - أحياناً - فيما تقع فيه بعض التجمعات الحزبية العلمانية!
بواعث الضعف:
ولعل من بواعث هذا الضعف ثلاثة أسباب رئيسة:
الأول: ضعف المناهج التربوية في بعض التجمعات الإسلامية، وتقصيرها في التأكيد على تعظيم النص الشرعي والوقوف عند حدوده.
الثاني: التقصير في تربية الشباب على العبادة والخوف من الله - جل وعلا - وخشيته في السر والعلن؛ فالمتعبد الرباني من أكثر الناس حرصاً على طاعة الله - عز وجل - والتمسك بمرادات الشارع الحكيم.
الثالث: بعض التجمعات الإسلامية مارست دور التهميش أو الإقصاء للقيادات العلمية المتخصصة في العلوم الشرعية؛ فمتطلبات المرحلة الحالية - عندهم - تقتضي ضرورة انطلاق القيادات السياسية بمعزل عن الشرعيين!
إن ضعف المرجعية الشرعية في منطلقاتنا الدعوية وبرامجنا التربوية، مؤشر خطير على انحراف منهجي أدى إلى تصدير غير الأكفاء. لذا؛ نرى أن من واجبات المرحلة: تربية الشباب على تعظيم النصوص الشرعية والوقوف عند حدودها، والاستسلام التام لدلائلها، ومن ذلك: أخذ الاجتهاد الفقهي والدعوي والسياسي ممن يوثق بعلمه وفهمه وفطنته وخبرته. وما أجمل قول الإمام مالك بن أنس: «إن هذا العلم هو لحمك ودمك، وعنه تُسأل يوم القيامة؛ فانظر عمن تأخذه»[المحدث الفاصل 416].
إن قوة البيان والتأثير في الجماهير لا تستمد جذورها من مجرد التقليد والانتماء الحزبي والرؤية العاطفية، وإنما ينـبغي أن تعتـمد على الخطاب العلمي الذي يُبنى على الدليل والبرهان الصحيح، تحقيقاً لقول الله - تعالى -: {ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: ٤]. وهذا يؤكد على التجمعات الإسلامية ضرورة إحياء ثقافة (الحجة والبرهان) عند الاستدلال والتلقي في شأنها كله. وما أجمل قول شيخ الإسلام ابن تيمية: «وكلُّ من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسُنَّة رسوله؛ فقد دعا إلى بدعة وضلالة. والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره؛ إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى صراطه المستقيم؛ فإن الشريعة مثل سفينة نوح؛ مَنْ ركِبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق»[الحسبة في الإسلام 65].
وفي الوقت نفسه ينبغي ألا يقتصر دور الشرعيين على النقد والتحفظ والانغلاق، وإنما ينبغي عليهم أن يرتقوا بخطابهم الإسلامي، ويقدِّموا بإيجابية مبادرات علمية جادة تنهض بالأمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
البيان: عدد248