جاء في الحديث المتفق على صحته، قوله صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، فكل إنسان هيأه الله سبحانه لعمل يقوم به في هذه الحياة، والموفق من أدرك ما هيأه الله إليه، فعمل وجدَّ واتخذ الأسباب لأداء ما خُلق لأجله.
وحديثنا في هذه السطور يدور حول عَلَمٍ من أعلام القرآن الكريم، وقارئ من قرائه، هيأه الله لحفظ كتابه، وأنعم عليه بصوت شجي، يدخل إلى القلوب من غير استئذان، إنه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
مولده ونشأته
ولد الشيخ عبد الباسط في قرية (المراعزة) التابعة لمدينة (أرمنت) بمحافظة (قنا) بجنوب جمهورية مصر العربية، وصادف مولده السنة الهجرية (1345)، الموافق من السنة الميلادية (1927).
وكان من فضل الله عليه وعلى الناس أن جاء مولد الشيخ وسط أسرة قرآنية، فكان جده حافظاً لكتاب الله ومجيداً لقراءته وتجويده، وكان أبوه وأخواه كذلك، فكانت هذه الأسرة الصالحة البيئة القرآنية التي نشأ بها قارئنا الشيخ عبد الباسط.
رحلته مع القرآن
عندما شارف الشيخ سن السادسة دفع به والده إلى مركز لتحفيظ القرآن في قريته، وكان يسمى في ذلك العهد (الكُتَّاب)، وفي ذلك المركز انكشفت مواهب الشيخ، وبدأت الأنظار تلتفت إليه، وترنو نحوه.
في ذلك المركز أتم الشيخ حفظ القرآن كاملاً على يد الشيخ (الأمير)، وكانت طموحاته تتوجه تلقاء جمع قراءات القرآن، فاستشار والده وشيخه في ذلك، فأشارا عليه أن يتوجه إلى الشيخ محمد سليم ، الذي كانت الرحال تُشد إليه، من أجل جمع قراءات القرآن، والأخذ من علومه وفنونه.
وبالفعل، لم يتوان الشيخ عبد الباسط عن العمل بما أشار عليه والده وشيخه (الأمير)، فقصد الشيخ محمد سليم، الذي استقر به المقام مدرساً للقراءات بالمعهد الديني بمدينة (أرمنت)، فلازمه إلى أن أتم جمع القراءات القرآنية.
بعد أن اشتد عود الشيخ عبد الباسط، وانتشر صوته وصيته، مضافاً إلى كل ذلك تزكية شيخه محمد سليم، بدأت الدعوات المحلية تنهال عليه من العديد من المدن والقرى المصرية، فكان الشيخ لا يألوا جهداً في تلبية تلك الدعوات، حيث كان يقرأ فيها ما تيسر من القرآن بصوت تخشع له القلوب، وتقشعر له الأبدان.
وفي أولى زيارات الشيخ عبد الباسط لمدينة القاهرة في إحدى المناسبات الدينية، اجتمع فيها الشيخ في مسجد السيدة زينب مع مشاهير القراء حينئذ، أمثال الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ عبد الفتاح الشعشاعي، والشيخ أبي العينين شعيشع، وغيرهم من القراء المشهود لهم في ذلك الحين، وسنحت الفرصة في تلك المناسبة للشيخ عبد الباسط أن يقرأ بين يدي هؤلاء القراء، وكان من الأمر ما كان، فظُنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبر.
كانت هذه المناسبة هي واسطة العقد بين الشيخ عبد الباسط والإذاعة، فقد اختارت الإذاعة المصرية بعد أن وصل إلى سمعها ومسامعها تسجيل الشيخ عبد الباسط، الذي أداه في ذلك اللقاء، ومن ثم تمَّ اعتماده في الإذاعة جنباً إلى جنب مع القراء الكبار، ومنذ ذلك الحين استقر المقام بالشيخ في مدينة القاهرة، ومن إذاعتها بدأ صوته يسافر خارج مصر، ويجوب أنحاء الدنيا، وأصبح قارئاً على المستوى الإسلامي، بل والعالمي.
رحلاته القرآنية
وإذا كانت قراءة الشيخ في مسجد السيدة زينب هي نقطة الوصل بين الشيخ والإذاعة المصرية، فإن تلك الإذاعة بدورها كانت مركز انطلاق الشيخ عبد الباسط صوب العالم الرحب، فمن خلال تلك الإذاعة عرف الناس في أنحاء العالم الإسلامي الشيخ عبد الباسط، وارتبطت قلوبهم بصوته النديِّ، وأدائه القويِّ، ومن ثم بدأت الدعوات الخارجية تتدفق عليه من كل حدب وصوب، ولم يكن الشيخ ليخيب تلك الدعوات، بل استجاب لمعظمها، وسافر للعديد من الأقطار الإسلامية حاملاً رسالة القرآن إلى العالمين.
كانت أول زيارة للشيخ عبد الباسط خارج مصر عام (1952م)، حيث قصد المملكة العربية السعودية لأداء فريضة الحج، وكانت تلك الزيارة فرصة للطلب من الشيخ عبد الباسط القيام ببعض التسجيلات القرآنية، ففعل الشيخ ذلك مشكوراً مأجوراً، وسجل بصوته الرخيم عدداً من التلاوات القرآنية، كان أشهرها تلك التي سجلت بالحرمين المكي والمدني، حيث لُقِّب بعدها بـ (صوت مكة).
وكان من بين الدول التي زارها الشيخ عبد الباسط دولة الباكستان، حيث استقبله رئيسها حينئذ استقبالاً رسميًّا، وزار أيضاً دولة أندونسيا وقرأ في مساجدها، التي اكتظ مسلموها لسماع صوته، وزار كذلك دولة الهند، وغيرها من الدول، وذاع صيته شرقاً وغرباً.
هذا، ولم تقتصر زيارات الشيخ لدول العالم العربي والإسلامي فحسب، بل امتدت زياراته لتشمل عدداً من الدول الغربية، فزار كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، وفرنسا، وغيرها من دول العالم.
ومن أهم المساجد التي قرأ فيها الشيخ عبد الباسط: المسجد المكي، والمسجد المدني، والمسجد الأقصى، والمسجد الإبراهيمي في مدينة الخليل بفلسطين، والمسجد الأموي بدمشق، إضافة إلى العديد من مساجد العالم الإسلامي وغيره.
أثره
كان لزيارات الشيخ عبد الباسط إلى العديد من دول العالم أثر كبير على الإسلام والمسلمين، حيث بلَّغ رسالة القرآن خير بلاغ، وتأثر الكثير ممن استمع لصوت الشيخ وهو يقرأ القرآن بصوته النديِّ، وأدائه القوي، فكان سبباً في هداية كثير من القلوب القاسية، واهتدى بتلاوته كثير من الحائرين. وفوق ذلك، كان الشيخ عبد الباسط سبباً في توطيد العلاقات بين كثير من شعوب دول العالم، حيث جمع الله بجهده وصوته شيئاً مما تفرق.
تكريمه
كان للشيخ عبد الباسط مكانة رفيعة عند المسلمين، شعبياً ورسمياً، الأمر الذي حمل عدداً من الدول إلى تكريمه ببعض الأوسمة والشهادات؛ تقديراً لجهوده في خدمة الإسلام والمسلمين، ومن تلك التكريمات التي قُدمت له: شهادة (التقدير الفخرية) من دولة الباكستان، ومنحته الجامعة الإسلامية في باكستان شهادة (الدكتوراه الفخرية)؛ تقديراً لدوره في خدمة القرآن الكريم، ونال (وسام الاستحقاق) الذي منحته إياه سوريا، و(وسام الأرز) من لبنان، و(الوسام الذهبي) من ماليزيا، إضافة إلى وسام من السنغال، وآخر من المغرب.
خاتمة المطاف
استمرت رحلة الشيخ مع القرآن الكريم ما يقرب من نصف قرن أو يزيد، كانت رحلة عامرة بالخير والعطاء، لكن لا بد لكل شيء من نهاية، فبعد صراع مع المرض أسلمت روح الشيخ إلى بارئها، وفارقت الحياة بعد رحلة من العطاء، لا زالت مستمرة حتى يوم الناس هذا، وإلى أن يشاء الله رب العالمين.
وقد وافق رحيل الشيخ عبد الباسط من التاريخ الهجري: 21/جمادى الأولى/1409، الموافق من السنة الميلادية: 30/12/1988، وكان يوم وفاته يوماً مشهوداً، حيث شُيِّع على المستوى الرسمي والشعبي، فخرج لتشييعه جميع سفراء الدول الإسلامية في القاهرة، إضافة إلى حشود غفيرة من المسلمين، سائلين المولى له حسن الجزاء وخير الثواب.
أخيراً، فقد سئل الشيخ الشعراوي عن رأيه في عدد من قراء القرآن المرموقين، وكان ممن سئل عن إبداء رأيه فيه الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، فكان جوابه: إن أردنا حلاوة الصوت فهو عبد الباسط عبد الصمد.