شهر شعبان من شهور الله المباركة، وهو كالمدخل لرمضان ومن ثم تداعت الهمم إلى تعميره بالطاعة والاجتهاد في العبادة؛ إن لم يكن لإعمار وقت غفلة الأكثرين من الناس، فمن باب إعداد العدة وتهيئة النفس لاستقبال شهر الصيام، وقد ثبت عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يكثر فيه من الصيام، فكان يصومه كله أو يصومه إلا قليلا، كما في الصحيحين من حديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها .
وفي شعبان من كل عام تشرئب أعناق بعض الناس إلى يوم النصف منه وليلته وتتعلق بها قلوب كثير من طالبي العفو والصفح والمغفرة ويخصصون هذا اليوم وتلك الليلة بعبادات مخصوصة وأدعية وأذكار لم يرد في الشرع دليل عليها لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، خصوصا ما يسمى بصلاة النصف من شعبان وهي صلاة باطلة بكل صورها، وقد ذكرها جميعها ابن الجوزي في كتابه الموضوعات، وحكم عليها بالوضع المتقدمون والمتأخرون من أهل العلم والدراية: قال الحافظ العراقي ـ رحمه الله: (حديث صلاة ليلة النصف موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب عليه).
وقال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه "المجموع":( الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب...، وصلاة ليلة النصف من شعبان مائة ركعة، هاتان الصلاتان بدعتان منكرتان، ولا يغتر بذكرهما في كتاب: "قوت القلوب"، و"إحياء علوم الدين"، ولا بالحديث المذكور فيهما، فإن كل ذلك باطل، ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما، فإنه غالط في ذلك).
فلا ينبغي لأحد أن يخص هذا اليوم أو تلك الليلة بعبادة مخصوصة قال الشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله: (إن الله تعالى لم يشرع للمؤمنين في كتابه ولا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا في سنته عملاً خاصًّا بهذه الليلة).
وقال العلامة ابن بازـ رحمه الله ـ بعد أن ساق الأدلة على بدعية ذلك: (ومما تقدم من الآيات والأحاديث وكلام أهل العلم، يتضح لطالب الحق أن الاحتفال بليلة النصف من شعبان بالصلاة أو غيرها، وتخصيص يومها بالصيام بدعة منكرة عند أكثر أهل العلم، وليس له أصل في الشرع المطهر، بل هو مما حدث في الإسلام بعد عصر الصحابة رضي الله عنهم).
وجماع الدين كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية "ألا يعبد إلا الله، وألا يعبد إلا بما شرع".
حق الأخوة حسن الظن والنصح
وحق الأخوة يوجب علينا أن نحسن الظن بإخواننا وأنهم إنما أرادوا بعبادتهم هذه التقرب إلى الله، والسعي إلى مرضاته، والبحث عن عفوه والرغبة في ثوابه وأجره.. وحق الأخوة أيضا يوجب علينا النصح لهم بأنهم طلبوا المغفرة بغير أسبابها، وبحثوا عنها في غير مظانها، وسلكوا لها سبيلا لا يوصل إليها؛ فكل سبيل لم يدل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا خير فيها ولا بلوغ من ورائها، فليس أنفع للمرء من اتباع هدي من لا ينطق عن الهوى، والبعد عن كل أمر محدث مخترع في الدين لم يفعله ولا أصحابه كما قال صلوات الله وسلامه عليه: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وقال: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"، والخير كل الخير في اتباع من سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف، وما لم يكن يومئذ دينا فليس اليوم دينا
وخير الأمور السالفات على الهدى *** وشر الأمور المحدثات البدائع
وإذا كان الناس قد اخترعوا ما اخترعوه طلبا للمغفرة والرحمة ونيل ثواب الكريم الوهاب، وإذا لم يكن قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في تخصيص يوم النصف وليلته بعبادة خاصة شيء، فإن هناك ما صح عنه عليه الصلاة والسلام في فتح باب المغفرة في تلك الليلة ذاتها لمن أراد وذلك في الحديث الصحيح عنه قال: [يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن] وفي رواية [ فيغفر لعباده إلا اثنين مشاحن وقاتل نفس ] وفي رواية أخرى: [يطلع الله إلى عباده ليلة النصف من شعبان فيغفر للمؤمنين ويمهل الكافرين ويدع أهل الحقد بحقدهم حتى يدعوه].
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم العفو معلقا بطهارة القلب عن الشرك بكل مظاهره، وبراءته من التعلق بغير إلهه وخالقه ورازقه، فالشرك أعظم الذنوب وأقبح العيوب ولا يقبل الله معه صرفا ولا عدلا أي لا فريضة ولا نفلا (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72)
ثم تخليه القلب عن كل ضغينة، وتطهيره عن كل رذيلة، وتخلصه من كل قطيعة، وحمايته عن كل شحناء وصيانته عن كل بغضاء، فهذا القلب الذي يستحق العفو والمغفرة، وإن بات طيلة الليل على فراشه.
إن صلاة الإنسان ألف ركعة وركعة، وقراءة سورة ألف مرة ومرة، أو حتى ختم القرآن ألف ألف ختمة، في الوقت الذي يمتلئ قلبه على المسلمين حقدا وغلا، وحسدا وبغضا، لا ينفعه، كما قال النبي في المرأة المتعبدة الصوامة القوامة التي تؤذي جيرانها هي من أهل النار.. لأن الحقد داء دفين، وحمل ثقيل، يتعب حامله ويثقل كاهله، فتشقى به نفسه ويفسد به فكره وينشغل له باله فيكثر همه وغمه فلا يرتاح حتى يؤذي من يحقد عليه لينفس عن نفسه.
والحقد والشحناء في الحقيقة صنيعة إبليس في القلب يورد بها العبد المهالك، ولا يزال يشعل بها نار الغيرة والحسد في القلب حتى تحرق ما تبقى فيه من إيمان كما قال المعصوم صلى الله عليه وسلم: "دب إليكم داء الأمم قبلكم البغضاء والحسد والبغضاء هي الحالقة ليس حالقة الشعر ولكن حالقة الدين"
إنها دعوة للمحبة والتآلف، والمودة والتعاطف، فإن الأمة تحتاج إلى صفاء النفوس، ونقاء القلوب، وتحلية الضمائر، وتطهير السرائر أكثر من حاجتها لعبادات مخترعة لا تنفع صاحبها في قليل ولا كثير، وكثرة العبادة مع فساد القلوب لا تغني عن الأمة في نقير ولا قطمير (هذا إن كانت صحيحة فما بالك إن كانت مبتدعة باطلة؟).
إنها دعوة لوحدة الصف ورأب الصدع ونبذ الضغائن ورفع الأحقاد، حتى تعود قلوبنا بيضاء نقية كقلوب أهل الجنة "ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار". "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين"
وأهل التوفيق ينظرون إلى هذه الدعوة لتصفية القلوب نظرة أخرى لا تقل أهمية عن الأولى وهي أننا مقبلون على رمضان فنحتاج أن نقبل عليه بقلوب جديدة مستعدة للعبادة مقبلة على الطاعة غير متفرغة لسفاسف الأمور من ضغائن وأحقاد فهذه قلوب لا تنتفع برمضان في الغالب. وإنما ينتفع برمضان قلب لا يجدُ لأحد من المسلمين غِشًّا ولا يحسدُ أحداً على خير أعطاه الله إياه.
فيا أخي الحبيب .. ليس أروح للمرء ولا أطرد لهمومه، ولا أقر لعينه من أن يعيش سليم القلب، مُبرَّأ من وساوس الضغينة، وثوران الأحقاد، إذا رأى نعمةً تنساق لأحدٍ رضيَ بها، وأحسَّ فضل الله فيها، وفقرَ عبادهِ إليها، وإذا رأى أذى يلحق أحداً من خلق الله رَثَى له، ورجا الله أن يفرج ويغفر ذنبه، وبذلك يحيا المسلم ناصع الصفحة، راضياً عن الله وعن الحياة، فيستحق مغفرة الله، وأما أهل الحقد فيدعهم الله وحقدهم حتى يدعوه.
نسأل الله أن يجعلنا ممن ينظر الله إليهم فيغفر لهم ويتوب عليهم .. آمين.