أثار تصريح الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في 2/10/2001م عن الدولة الفلسطينية اهتمامًا عربيًا ودوليًا واسعًا . الدول العربي رحبت بهذا التصريح واعتبرته مؤشرًا على تصحيح الموقف الأمريكي من عملية السلام المتوقفة منذ أكثر من عام ، ويمثل نقلة نوعية على طريق حل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً يعترف بحق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة على أرض وطنه ، وأيد رئيس وزراء بريطانيا توني بلير الموقف الأمريكي ، كما أيدته بقية دول الاتحاد الأوروبي وعدد كبير من دول العالم في مقدمتها الصين وروسيا الاتحادية ، بينما اعتبر رئيس حكومة إسرائيل آرييل شارون التصريح محاولة لترضية العرب . وذهب شارون إلى حد تشبيه الرئيس بوش ، برئيس وزراء بريطانيا سنة 1938م نيفيل تشمبرلين الذي قدم تنازلات إلى هتلر في أراضي تشيكوسلوفاكيا لترضيته ، آنذاك . وسارع شارون إلى وضع العراقيل عندما وضع شروطه للموافقة على إقامة الدولة الفلسطينية التي وردت في تصريحاته في 17/10/2001م .
وفي ظل شرط شارون وقيوده ، تكون هذه الدولة - إن جاز التعبير - مجرد إدارة للمرافق والخدمات العامة . وهذا يتعارض مع التصور الأميركي للدولة الفلسطينية.
وإذا رجعنا إلى الوثائق السياسية الأميركية منذ نشأة القضية الفلسطينية في أعقاب الحرب العالمية الأولى نرى أن بوش الابن كان واضحًا حين جدد الموقف الأمريكي الذي ورد في هذه الوثائق ، نذكر أبرزها على سبيل المثال :
01 اعترفت اللجنة الأميركية المعروفة بلجنة كنغ - كراين التي زارت فلسطين في سنة 1919م ، بحق الشعب الفلسطيني بتقرير مصيره ، وفقًا لما ورد في تقريرها الذي رفعته إلى الرئيس الأميركي ولسون ، وجاء فيه : " فإذا كان هذا المبدأ سيسود وإذا كانت رغائب السكان في فلسطين سيعمل بها في ما يتعلق بفلسطين ، فيجب الاعتراف بأن السكان غير اليهود في فلسطين ، وهم تسعة أعشار السكان ، كلهم تقريبًا يرفضون البرنامج الصهيوني رفضًا باتًا . فتعريض شعب هذه حالته النفسية لمهاجرة يهودية لا حد لها ولضغط اقتصادي واجتماعي متواصل ليسلم بلاده نقض شائن للمبدأ العادل ، واعتداء على حقوق شعب ".
02 في 5 أبريل 1945م ، بعث الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت رسالة إلى الملك عبد العزيز آل سعود ، أكد له فيها احترام أميركا حق العرب في تقرير مصيرهم في فلسطين ، وقال فيها :
" تتذكرون جلالتكم أنه في مناسبات سابقة أبلغناكم موقف الحكومة الأميركية تجاه فلسطين وأوضحت رغبتنا بألا يُتخذ قرار في ما يختص بالوضع الأساسي في تلك البلاد من دون استشارة تامة مع العرب ".
03 أوصت اللجنة الانغلو - أميركية التي زارت فلسطين في سنة 1946م للتحقيق في مستقبل البلاد بعد انتهاء مرحلة الانتداب البريطاني بعدم تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ، بل تبقى دولة واحدة يعيش فيها الجميع في ظل نظام ديمقراطي . كما طالبت بالحد من موجات الهجرة اليهودية ، ففلسطين بلاد ضيقة وفقيرة لا تستوعب هذه الأعداد الكبيرة من اليهود المهاجرين.
04 أيدت الولايات المتحدة قرار التقسيم الرقم 181 الذي وافقت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة بغالبية الثلثين في 29/11/1947م ، وبذلك أصبح ملزمًا لأعضاء المنظمة الدولية ، وهو يقضي بإقامة دولة فلسطينية على أرض فلسطين إلى جانب الدولة اليهودية ، ويضع منطقة القدس تحت الإشراف الدولي . ووافق المندوب الأميركي في الأمم المتحدة فيليب غيوسوب على قيام الدولة الفلسطينية في خطابه أمام مجلس الأمن الدولي في عام 1948م ، كما وافقت الولايات المتحدة على القرار الرقم 194 لعام 1948م الذي يطالب بعودة اللاجئين إلى وطنهم ، وهي عضو في لجنة التوفيق التي تشكلت بموجب هذا القرار ومهمتها تنفيذ قرارات الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين.
05 أكد الرئيس الأميركي جون كينيدي ، تأييد بلاده لحل القضية الفلسطينية حلاً عادلاً ، جاء ذلك في رسالته إلى الرئيس العربي الراحل جمال عبد الناصر ، في العام 1961م ، إذ قال : " إننا مستعدون للمساعدة في حل مأساة اللاجئين العرب على أساس المبدأ القاضي بإعادتهم إلى ديارهم أو تعويضهم عن ممتلكاتهم . وأن الولايات المتحدة بوصفها عضوًا في لجنة التوفيق الفلسطينية وبوصفها دولة مهتمة كل الاهتمام بتقدم شعوب الشرق الأوسط على المدى الطويل ، ننظر بعين الجد إلى المهمة التي عهدت بها الأمم المتحدة إلى تلك اللجنة وأننا لمصممون على أن نستخدم نفوذنا حتى تضاعف هذه اللجنة جهودها للعمل على إحراز تقدم في ما يتعلق بإيجاد حل سلمي وعادل للمشكلة الفلسطينية ".
واعترفت كل الحكومات الأميركية في أكثر من مناسبة وبتصريحات من كبار المسؤولين فيها ، بأن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي ، فقال مستشار الأمن القومي السابق ويليام كوانت : " وما يجب أن نعترف به جميعًا هو أن القضية الفلسطينية يجب أن تحل حلاً جذريًا لأن بقاءها يهدد الاستقرار والسلام بين بقية الدول العربية وإسرائيل ".
وهو ما أكده وزير الخارجية المعروف هنري كيسنجر عندما قال : " أعتقد أن حل القضية الفلسطينية سيكون خطوة كبيرة في الطريق إلى حسم قضايا أخرى في المنطقة " .
ولكن لا بد من القول : إن سياسة أي دولة ومواقفها لا تقاس من خلال التصريحات والبيانات والنيات الحسنة فقط ، بل بالخطوات العملية التي تتخذها فعلاً وتتمثل في حقائق ملموسة على أرض الواقع ، وحدث ذلك في الماضي البعيد والقريب ، وذلك عندما أصر الرئيس الأمريكي السابق دوايت ايزنهاور على انسحاب القوات الإسرائيلية انسحابًا كاملاً من الأراضي التي احتلتها في سيناء وقطاع غزة أثناء اشتراكها في العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956م ، وتحقق الانسحاب التام في 7 مارس 1957م.
وتكرر ذلك عندما أوقف الرئيس جورج بوش الأب إجراءات تقديم القروض المطلوبة إلى إسرائيل في سنة 1991م حتى تتوقف عمليات بناء المستعمرات في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967م.
وأخيرًا ، إذا كان الرئيس جورج بوش الابن ، جدد تأكيد المواقف الأميركية السابقة تجاه فلسطين وشعبها ، فإن العبرة ليست بالأقوال ، وإما بالأفعال التي تترجم ذلك إلى أعمال تكون برهانًا على صدق ما قاله ، والضمان الوحيد إلى استمرار الموقف الأميركي في هذا الاتجاه ، هو وحدة الموقف الفلسطيني ومقاومته المشروعة للاحتلال الإسرائيلي . وعلى الفلسطينيين أن يستفيدوا من تجارب الماضي . فقد تخلت بريطانيا عن دعمها لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين وفق ما ورد في وعد بلفور ، وذلك في " الكتاب الأبيض " الذي صدر في سنة 1939م لكسب تأييد العرب لها في الحرب العالمية الثانية ، ولكن بعد الحرب وانتصار الحلفاء فيها ، عادت تؤيد الحركة الصهيونية وأطماعها في فلسطين ، فهل يتكرر ذلك في الموقف الأميركي إذا حققت الحملة الأميركية أهدافها في أفغانستان ؟