إن بريطانيا التي أصدرت وعد بلفور القاضي بإقامة وطن قومي في قلب الوطن العربي فلسطين ، كانت تعلم أن المسألة ليست مسألة وطن قومي وأرض يسكنها اليهود ، بل هي إقامة دولة استعمارية بكل ما في هذه الكلمة من معنى ، دولة استعمارية من نوع ربما كان أبشع أنواع الاستعمار .. إنه الاستعمار الذي يقوم على جثث سكان البلاد الأصليين .. الاستعمار الذي يرتهن وجوده بإزالة وجود أولئك ، وبريطانيا خبيرة بمثل هذا الاستعمار ، فقد مارسته في أمريكا حين بدأ مهاجروها من قطاع طرق وخارجين عن القانون ومرتزقة يغزون الأرض الجديدة لا لكي يعيشونا فيها كمواطنين عاديين ، بل كغزاة دمويين يرفضون التعايش الإنساني مع السكان أصحاب البلاد الأصليين (الهنود الحمر) ، الأمر الذي أدى للأسف إلى إبادتهم بملايينهم الكثيرة ، إبادة شبه تامة ، لهذا فإن إسهام بريطانيا في التآمر على فلسطين مع " روتشيلد " وزعماء الصهيونية الآخرين يتضح لنا من صيغة ذلك الوعد الذي أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق ، فهو يكذب علنا ويقلب الحقائق ويزور التاريخ ذارا الرماد في العيون ، تمامـًا كما كان يفعل هؤلاء البريطانيون من قبل مع سكان أمريكا المساكين .
وهكذا كان الاتفاق بين الصهيونية والإمبريالية بزعامة بريطانيا تامـًا ومؤكدًا ، وقد حددت فيه وبالتفصيل كافة البنود والشروط ، وذلك طبقـًا لمخططات " تيودور هرتسل " الأساسية الذي اتصل بالسلطات العثمانية والفرنسية والألمانية ، إضافة لبريطانيا ، بل اتصل أيضـًا بقيصر روسيا وملك إيطاليا شارحـًا لهم الفوائد الكثيرة التي سيجنيها الإمبرياليون الغربيون من جراء قيام كيان صهيوني ، فها هو يقول لهم : سنبني سككـًا حديدية في آسيا ، ونشق الطريق للأمم المتحضرة الاستعمارية ، وهذه الطريق لن تكون في يد دولة كبيرة واحدة ، بل للجميع تمامـًا كما يفعل أحفاده الصهاينة اليوم في تل أبيب في إطار الشرق أوسطية .
وهنا يتعهد "هرتسل " ذاك الحالم بأن تكون الصهيونية في إطار ذلك الكيان حليفة كل هؤلاء الاستعماريين بشتى أشكالهم وأوضاعهم السياسية ضد الأمة العربية، وهرتسل لم يتردد في وضع الحركة الصهيونية في قبضة القيصر الألماني ، وتحت تصرفه حين شعر بأن هذا القيصر هو الأقوى والأقدر على تحقيق حلمه ، وإذا كانت ألمانيا قادرة على الحركة وتود دخول حلبة التنافس الاستعماري فالصهيونية جاهزة لتقديم كل عون ، لكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن الصهيونية لا تفرق بين قوة استعمارية وأخرى ، لكنها في نفس الوقت مع الأقوى فقط ، والمهم هو تحقيق الحلم فقط ، فهو - هرتسل - وفي اليوم التالي لكتابته تلك ونتيجة تغيرات سياسية معينة قلل ويخفف من ثقته بألمانيا ، وهاهو يكتب في يومياته "ما دام أي عمل من جانب فرنسا لصالحنا بفضل انعكاساته ، فيجب علينا أن نعمل على تعزيز الأماني الفرنسية في سوريا وفلسطين " .
نعم في فلسطين ، فهو يرى مسبقـًا أن مصالح الصهيونية والاستعمار الفرنسي واحدة في المشرق العربي ، وأن أي عمل استعماري تقوم به فرنسا هناك سينعكس حتمـًا لصالح الصهيونية ، لذا فهو يوجه تعليماته للحركة الصهيونية بضرورة مساندة فرنسا ودفعها قدمـًا لاستعمار المنطقة كي ينفذ من خلالها إلى فلسطين وينشب مخالبه فيها .
ولابد من التأكيد على أن هذا الخط الذي رسخه ذلك الصهيوني الأول " هرتسل " هو الذي استمر على شكل تنسيق كامل بين الصهيونية من جهة ، والاستعماريين الفرنسي والبريطاني من جهة أخرى .
وبالطبع فإن " وعد بلفور " لم يصدر إلا بالاتفاق مع فرنسا ، بل وموافقة روسيا القيصرية التي شاركتنا في اتفاقية "سايكس بيكو " لعام 1916م ، يوم كانت حليفة للإمبرياليين حينذاك ، ولقد أكد " بالمرستون " رئيس وزراء بريطانيا يومذاك في برنامج توسعه الاستعماري في مطلع القرن الماضي على أن بعث " الأمة اليهودية " إن وجدت على شكل أمة لن يؤدي فقط إلى الإسراع في المجرى المعلمي الذي بدأ منذ ألف عام إبان العملية الاستعمارية التي بدأت بالحملات الصليبية ، بل سيؤدي أيضـًا إلى إعطاء القوة للسياسة البريطانية .
وانطلاقـًا من هذا الفهم المتبادل بين الإمبريالية والصهيونية ، وضعت خطط الانتداب البريطاني على فلسطين والفرنسي على سوريا ولبنان ، وتم تقسيم تركة الدولة العثمانية ، واتخذت كافة الإجراءات التي تكفل تنفيذ أخطر مخطط استعماري استيطاني في التاريخ كله ، ولكي يفي البريطانيون بوعدهم المشؤوم ذاك " وعد بلفور " ، وضعوا على رأس سلطة الانتداب في فلسطين واحدًا من أعتى عتاة الصهاينة ، وهو " هربرت صمويل " ، كما وضعوا تحت إمرته كل الإمكانات المتاحة ، ثم بدأوا ينسقون معـًا خطط التهجير ، ونقل ملكية الأراضي ، واغتصاب الممتلكات .
لقد كان الصهاينة يرون في كل دولة إمبريالية قادرة على مساعدتهم في الاستيلاء على فلسطين حليفـًا منشودًا ، إذ بكل وقاحة يقول واحد منهم وهو " د. باما نسيك " : " إن الطريق إلى أرض الميعاد .. المزعومة يمكن أن تمر عبر لندن وبطرسبورج وباريس وغيرها " .
ولقد طبق الصهاينة ذلك عمليـًا ، إذ ما أن صعد " هتلر " سلم السلطة في ألمانيا حتى توجه إليه زعماء الصهيونية ليعقدوا أرهب اتفاق في التاريخ ، ألا وهو ذبح اليهود وارتكاب المجازر من أجل إرغام اليهود الآخرين على الهجرة إلى فلسطين، وهكذا وفي العاشر من نوفمبر عام 1938م أصدر " جيدينبرج " أمرًا ينص على تدمير المخازن والمؤسسات والبيوت اليهودية الخاصة .
وأحرقت المعابد اليهودية ، ذلك أن زعماء الصهيونية كانوا قد قرروا " أن موت الكثير من اليهود يعني طرد الباقين إلى فلسطين " ، كما نشر عام 1961م في الولايات المتحدة الأمريكية " كتالوج " أوراق وميكروفيلم وثائقي لأرشيف وزارة الخارجية البريطانية الألمانية ، فجاء دليلاً على أن النازيين قد قاموا في بداية حكمهم باتباع سياسة موالية للصهيونية ، إذ كانت المؤامرة الصهيونية الفاشية تنص على إجلاء الصهاينة الأثرياء الباقين ، أما المحرومون من جميع الحقوق المدنية فقد تركوا تحت رحمة الفاشيين .
وهكذا ضحى زعماء الصهاينة بالكثير من أبناء جلدتهم من أجل تحقيق أغراضهم متجاوزين بذلك كل قيمة أخلاقية أو إنسانية ، والأدلة في هذا المجال دامغة والشواهد كثيرة .
إن قراءة متأنية لما جاء في كتاب واحد من كتاب أمريكا المعروفين ، وهو " الفريد ليلتتال " والذي جاء بعنوان " الجانب الآخر للميدالية " تعطينا الدليل على طبيعة العلاقات التي كانت قائمة بين الصهاينة والفاشيين غداة وصول "هتلر " إلى السلطة ، فهو يقول في كتابه : " كان الصهاينة في الأشهر الأولى من حياة النظام الهتلري الممثل الوحيد لليهود ، وكانوا على اتصال وثيق بالسلطات الألمانية ، وقد استغلوا وضعهم من أجل تشويه سمعة أعداء الصهاينة والصهيونية وسمعة اليهود الذين ينادون بالذوبان مع الشعوب الأخرى ، وكانت النتيجة أن توصل الطرفان إلى اتفاق بين الوكالة اليهودية والسلطات النازية التي وعدت بدعم الهجرة إلى فلسطين .
وفي دعم الهجرة اشترك الفستابو والـ " س . س " أي القوات النازية الخاصة بهتلر نفسه، وبهذه الضربة المزدوجة استطاع زعماء الصهيونية في الحقيقة إنهاء المسألة التي كانت تقض مضجع هرتسل ، وإزالة أسباب معاناته في حياته ، أي تزيل مقاومة اليهود أنفسهم للنزعة الصهيونية الاستعمارية ، فقد وضعوا ، بالاتفاق مع زعماء النازية المجرمين ، يهود أوروبا جميعـًا أمام خيارين لا ثالث لهما : إما الهجرة إلى فلسطين العربية ، وأما الموت في معسكرات الاعتقال وأفران الغاز الألمانية ، وحيثما كانت تحل القوات النازية كان هذان الخياران يطرحان ، الأمر الذي جعل زعماء الصهاينة يطربون وهم يرون قوافل المذعورين من اليهود الفارين بجلودهم والمطرودين تتجه إلى أراضي العرب في فلسطين ، وجعل أرقام المهاجرين ترتفع وتتزايد خلال اثني عشر عامـًا من حكم النازية لألمانيا من عشرات ألوف قليلة إلى مئات ألوف عديدة.
نعم ، لقد عقد الصهاينة اتفاقـًا غريبـًا مع النازية أدى إلى قتل أكبر عدد من اليهود ، ليس في ألمانيا فقط ، بل عبر كل أوروبا لضمان أقصى درجات ترهيبهم ودفعهم بالتالي للهجرة الجماعية إلى أرض فلسطين .
فهل جرى ذلك بمحض الصدفة ؟ البعض كان يخيل إليه ذلك ، إلا أن الحقيقة شيء آخر ، الحقيقة هي أن النازية كانت أكبر عونـًا للصهيونية ، وذلك كله تحت شعار اللاسامية وكراهية اليهود .
ولا غرو في ذلك ؛ فالحركتان عنصريتان فاشيتان متماثلتان في المنطلقات والأهداف .
وعقب الحرب العالمية الثانية وسقوط الرايخ الثالث في برلين ، بدا واضحـًا أن حليف الصهيونية الأساسي أي الإمبريالية البريطانية بات أسدًا هزمته حروب الزمان واقتلعت أنيابه ومخالبه الهزائم ، لهذا سرعان ما اتجهت الصهيونية الانتهازية كعادتها نحو القوة الإمبريالية الصاعدة ، أي الولايات المتحدة الأمريكية ، وسرعان ما عقدت معها العزم على متابعة التحالف التآمري الذي كانت تسلكه بريطانيا وفرنسا، كما وضعت الاتفاقات البشرية التي تكفل استمرار الحركة الصهيونية وتعزيزها ، وهذا ما يفسر لنا لماذا أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية بعد عشر دقائق فقط من إعلان ما سمي آنذاك بـ" دولة إسرائيل " عام 1948م عن اعترافها بهذه الدويلة ، فالواقع أن كلا الطرفين كانا يعلمان أن الرابطة بينهما أكثر من مصيرية ، فقد أثبتت الأحداث التي أعقبت قيام دولة إسرائيل هذه تلك الفرضية ، ولن أورد هنا شواهد أو أدلة ، فهذا تاريخ قريب مازلنا نعرفه ونطالع نتائجه صباح مساء في هذه الأيام ، وباستطاعة الباحث ، أي باحث ، أن يصطدم بآلاف البراهين والأدلة اليومية التي تثبت بأن الصهيونية تدحرجت إلى فلسطين الحبيبة بأرجل استعمارية ، وأن مرتكزاتها قامت على الأوهام والأساطير ، وأن هذه المرتكزات كان يمكن أن تبقى في عداد الأوهام والأساطير لولا اتفاقيات " كامب ديفيد " و " أوسلو " و " وادي عربة " .
وإني أقول لهؤلاء الذين يهرولون للتطبيع مع العدو الصهيوني إنكم تحرثون بالبحر ، ففلسطين كانت وستبقى أرضـًا عربية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة البيان