حتى قبل أن تضع الحرب المتواصلة في فلسطين ولبنان أوزارها، فقد توصل العديد من صناع القرار، والقيادات العسكرية والنخب الثقافية والإعلامية في الدولة العبرية إلى عدد من الاستخلاصات بالغة الأهمية؛ حيث كان القاسم المشترك بين هؤلاء جميعاً هو الاتفاق على أن هذه الحرب مثلت مرحلة جديدة ومتقدمة في "أسلمة الصراع" بين العرب و"إسرائيل"، وصبغه بالصبغة الدينية.
وقد زرع هذا الإدراك حالة من الخوف جعلت قيادية بارزة في الدولة العبرية وهي وزيرة الخارجية تسيفي ليفني تعتبر أن وجود دولة "إسرائيل" برمته أصبح في خطر كبير في حال تواصلت مظاهر أسلمة الصراع، مشددة في لقاء مع السفراء الأجانب المعتمدين في تل أبيب على أن مكامن الخطر في "أسلمة الصرع"، تتمثل في أنه يمد الفلسطينيين واللبنانيين بقدر هائل من الإيمان واليقين، يتلاشى معه تماماً تأثير قوة الردع الإسرائيلية القائمة على ميل موازين القوى العسكرية لصالح الجيش الإسرائيلي.
وتصل ليفني إلى قناعة مفادها أنه يتوجب على دول العالم قاطبة المساهمة في تطويق خطر الحركات الإسلامية التي نجحت في إقناع المجتمعات العربية بتبني "النسخة الإسلامية"، في كل ما يتعلق بالصراع مع "إسرائيل". وتحذر الوزيرة الإسرائيلية من أن الإسلاميين في العالم العربي نجحوا في دفع حتى التيارات القومية العربية لصبغ خطابها بالصبغة الإسلامية. لكن هناك من مفكري الصهاينة من ارتأى أنه على الرغم من الدور الذي يقوم به حزب الله في لبنان وفصائل المقاومة في فلسطين في استنزاف الدولة العبرية ، وعلى الرغم من أن هؤلاء يؤكدون أن المواجهة الحالية قد وحدت المسلمين في مواجهة "إسرائيل" ، إلا أنهم في المقابل يؤكدون أن ما يسمونه ب "الإسلام السني"، هو الذي يشكل الخطر الوجودي الأبرز على الدولة العبرية. البرفسور عوزي عراد الذي شغل في السابق منصب رئيس قسم الأبحاث في جهاز "الموساد"، ويرأس حالياً مركز "هرتسليا متعدد الاتجاهات"، أهم مركز أبحاث في الدولة العبرية يعتبر أن ما يسميه "الإسلام السني" هو الخطر بالغ الخطورة، لأن الدول العربية "المهمة" التي تحيط بـ"إسرائيل" هي دول "سنية"، وبالتالي، فإن وصول الحركات الإسلامية للحكم في هذه الدول يعني زيادة التهديدات لوجود الدولة العبرية بشكل لا يمكن تصوره وتوقع عواقبه.
أما تيدي كوليك رئيس بلدية الاحتلال في القدس السابق، فقد أصر من على فراش مرضه أن يوجه نداء عبر الإذاعة الإسرائيلية لقيادة الدولة العبرية يحثها على بذل كل جهد مستطاع والعمل بكل إصرار من أجل وقف عملية "أسلمة الصراع"، حتى لو كان الثمن المطلوب أن تقدم "إسرائيل" تنازلات كبيرة للأطراف العربية المعتدلة في المنطقة. ويعود كوليك، وبصوت مخنوق، لأيام مضت، حيث يحذر من أن التاريخ قد يعيد نفسه، محذراً الإسرائيليين من أن "عمر بن الخطاب آخر يمكن أن يترجل مرة أخرى ليعلن عودة القدس للمسلمين"، على حد تعبيره.
من ناحيته يسخر كارمي غيلون، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الإسرائيلية الداخلية "الشاباك" من الدعوات لوقف عملية "أسلمة" الصراع، مشدداً على أن هذه العملية هي أمر لا يمكن تجنبه، على اعتبار أن كل رموز الصراع بالنسبة للعرب هي رموز "إسلامية". بالتالي فإن غيلون ينصح ببذل جهد لمنع تطور عملية "أسلمة" الصراع، ومحاولة وضعها في حدود يمكن لدولة الاحتلال أن تتعايش معها، لكنه في المقابل يتفق مع من سبقوه بأن ذلك يتطلب من الحكومة الإسرائيلية تقديم تنازلات لأطراف "الاعتدال" في العالم العربي وتحديداً في فلسطين ولبنان، من أجل قطع الطريق على الإسلاميين، وتقليص تأثيرهم على هذا الصراع.
ويضرب الصحافي جاكي كوخي مثالاً لدولة عربية بإمكان عقد تسوية سياسية معها أن تغير وضع "إسرائيل" للأحسن، ألا وهي سوريا. ويعتبر كوخي أن مفتاح الهدوء في الجبهتين الفلسطينية واللبنانية متواجد في العاصمة السورية دمشق. وينوه إلى أن التسوية السياسية مع دمشق ستثقل على كل من حركة حماس وحزب الله، وتقلص هامش المناورة أمامهما. وهو يرى أن ذلك يتطلب من "إسرائيل" أن تدفع كل الثمن المطلوب دفعه لسوريا من أجل إقناعها بالتوقيع على تسوية سياسية معها.
ويحذر كوخي دوائر صنع القرار في "إسرائيل" من الاستلاب لخيار القوة قائلاً: "لقد بدأ الجيش الإسرائيلي هذه الحرب بقوة نيران هائلة جداً، وسيعود منها كالكلب عندما يطوي ذيله بين رجليه".
ومن مفكري الصهاينة من اعتبر أن أحد أهم الأسباب التي جعلت الدولة العبرية عاجزة في المواجهة المتواصلة أمام الإسلاميين في فلسطين ولبنان هو تهاوي منظومة القيم في الدولة العبرية. ويعتبر المفكر أرييه شفيط أن حرص المجتمع الإسرائيلي على ملذات الحياه قد أفسده، وجعله يفشل في مواجهة الإسلاميين. ويرى شفيط أن فساد المجتمع الإسرائيلي وتسلط أصحاب المصالح الطبقية والشخصية عليه، هو الذي مكن بضع مئات من المسلمين المؤمنين من تحدي "إسرائيل" ذات الجيش القوى، "وقرع بابها متحدين". ويضيف "لقد جاءنا جيش صغير من المؤمنين، مطيع ذو تصميم، وليقول إن ديمقراطيتنا فاسدة. وإن حرصنا الغربي على اللذة فاسد. وإنه لا قدرة لمجتمع حر محب للحياة في شرق أوسط متدين".
وفي صرخة تحذير مدوية من ميل المجتمع الإسرائيلي للانغماس في الملذات، في إضعافه في مواجهة الإسلاميين، يقول شليط: " لقد تحولت "إسرائيل" لتكون مجرد قارب يركبه كل من يريد الإبحار بحثاً عن الملذات، ولا يلحظ ربان هذا المركب الذين تسكرهم العجرفة وأصحابه الذين يشربون الفساد العاصفة الكبيرة الآخذة في الاقتراب". ويعتبر شفيط أن النظام الرأسمالي الذي تتبناه "إسرائيل" قد أضعفها في مواجهة الإسلاميين، قائلاً :" لقد أنشأنا نظاماً رأسمالياً مدمراً قائما على فردية متشددة تنقض كل إحساس بالتكافل وتضعف جداً نظام المنعة الوطنية ".