ربما يعدُّ من المناظر المألوفة لكثير منا رؤية مجموعة من النساء وقد تجمعن حول إحداهن وهي تمسك بكوب القهوة الفارغ، لتقرأ لهن حظهن ومستقبلهن، إنها صورة ساذجة بلا شك، إلا أنها تحكي حقيقة واقع الإنسان في ولعه بمعرفة ما تخبئه له الأيام، وما تحمله له السنون والأعوام .
وهو ولع أصاب البشرية منذ القدم فدفعها لاختبار شتى الطرق لكشف الغيب واستجلاء أسراره، فمنهم من رأى في حركة الطير، وصوت الغراب، ما يؤشر على قدوم خير أو مجيء شر، ومنهم من رأى في حركات الكواكب واجتماعها وافتراقها ما يخبر عن أحوال الخلق صحة وسقما، حياة وموتا، سعادة وشقاء، ومنهم من رأى في شقوق كف يد الإنسان، وخطوط الأرض ما ينبئ بمستقبله إلى غير ذلك من طرق هي إلى الخرافة أقرب منها إلى العلم .
وأمام هذا الاتساع الخرافي في العقلية البشرية وقف الإسلام من قضية العلم بالغيب موقفا حاسماً واضحاً، فبين أن لا أحد في السموات ولا في الأرض يعلم الغيب إلا الله، قال تعالى: { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله }(النمل: 65) ونفى سبحانه علم الغيب عن أقرب الخلق إليه، وأطوعهم له، وهم الملائكة والأنبياء، فقال للملائكة وقد تساءلوا: كيف يستخلف في الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ { إني أعلم ما لا تعلمون }( البقرة:30)، وتبرأ الأنبياء أنفسهم من ادعاء علم الغيب، فنوح - عليه السلام – كان يقول لقومه: { ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب }(هود:31) ونبينا - عليه الصلاة والسلام – أمره ربه أن يقول: { قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب }(الأنعام:50 ) ، وحتى الجن الذين يعتقد الكثير فيهم معرفة الغيب، بيَّن سبحانه أنهم لا يملكون هذه القدرة، وذكر كيف أنهم ظلوا مسخرين في الأعمال الشاقة التي استعملهم لها سليمان - عليه السلام – حتى بعد وفاته، ولم يعلموا بموته إلا بعد سقوطه حين أكلت الأرضة عصاه التي يتكئ عليها، قال تعالى: { فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين }(سبأ:14).
إذاً فعلم الغيب هو من اختصاص الله سبحانه، ولا طريق لمعرفته والاطلاع عليه إلا عن طريقه سبحانه، قال تعالى: { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول }(الجن: 26-27) .
ولترسيخ هذا المعنى في نفوس الناس أبطل الإسلام كل طريق يدعي البشر أنهم يعلمون الغيب من خلاله، فأبطل الطيرة، وهي: محاولة استكشاف الغيب عن طريق تهييج الطير من أعشاشها، فإن ذهبت يميناً ظن المتشائم أن في سفره خيراً فيمضي فيه، وإن ذهبت يساراً ظن أن في سفرا شراً فيرجع عنه، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( الطيرة شرك، الطيرة شرك ) رواه أحمد .
وأبطل الإسلام الكهانة وهي: ادعاء علم الغيب عن طريق الشياطين، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ( من أتى كاهناً أو عرّافاًً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ) رواه أحمد .
وأبطل الإسلام التنجيم، وهو: الاستدلال بأحوال الكواكب في اجتماعها وافتراقها على أحوال الخلق والأرض من جفاف وخصب ومطر وموت وحياة، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد ) رواه أبو داود وابن ماجة .
ومن التنجيم الباطل ما يسمى بعلم "الأبراج" والاستدلال به على مستقبل الإنسان وما سيحصل له من خير أو شر أو نجاح أو فشل، وقد ولع الناس بهذا اللون من التنجيم وتسامحوا في تعاطيه، رغبة في إشباع تطلعهم لمعرفة المستقبل .
وأبطل الإسلام ما يعرف بالطَرْقَ، وهو: ادعاء علم الغيب عن طريق رسم خطوط على الأرض، وبين أنها من جنس السحر والكهانة، فقال - عليه الصلاة والسلام - : ( العيافة والطيرة والطرق من الجبت ) رواه أبو داود .
ونص العلماء على حرمة ما يفعله الجهلة من قراءة الكف والفنجان، لمعرفة الغيب واستكشاف المستقبل، وبينوا أن ذلك كله من طرق الشيطان لإضلال بني آدم ، ومن أبواب الخرافة التي يجب على الإنسان أن ينزه عقله عن النزول إلى دركاتها، وأن يعلم أن الغيب باب مقفول لا يمكن أن يفتح إلا بإذن الله، كوحي من عنده، أو رؤيا صادقة، أو كرامة يمن الله بها على عبد من عباده، يكشف له بها حجب الغيب، وكل ذلك من عنده سبحانه لا تدخل للعبد في حصول شيء منه ، وما عداه مما يخترعه البشر فهو باطل وضلال .
وبهذا يظهر بوضوح تام كيف حمى الإسلام العقل وحرره من الخرافات التي سيطرت عليه طويلاً فجعلته أسير تطلعه لغيب لا يعلمه إلا الله.