الشيخ عبد القادر الأرناؤوط واحد من هؤلاء العلماء الذين اختاروا طريق مرافقة الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بخدمة الجديث النبوي الشريف ، وقد من الله تبارك وتعالى على الشيخ ففتح له في هذا العلم ، وجعل له فيه قدما راسخا ، ونفع الله به نفعا عم أرجاء العالم الإسلامي ، وكانت له مع السنة رحلة ممتعة مع مشقتها ، ونحن هنا نترجم للشيخ بعد مقابلة أجرتها معه الشبكة الإسلامية
قدري أو عبد القادر!!
يشتهر شيخنا في عالمنا الإسلامي بالشيخ "عبد القادر الأرناؤوط" واسمه الحقيقي كما تقول البطاقة الشخصية "قدري" وشهرته (الأرناؤوط) جاءت من اللقب الذي أطلقه الأتراك على كل ألباني .
كان ظلم الصرب واضطهادهم للألبان في كوسوفا ( kOSOVAV) قد بلغ أوجّه عندما قرر "صوقل" (والد الشيخ) الهجرة من قريته فريلا ( VRELA) إلى الشام مع زوجته وأولاده ، وكان "قدري" الطفل الصغير آنذاك (1252هـ-1932م) لم يتجاوز بعد سنواته الثلاث .
وعندما استقر في دمشق ، لم تلبث أن توفيت زوجته (والدة الشيخ) وقدري ما يزال صغيرًا ، وقرر والده الذي فرَّ بدينه أن يُعلّم ولده الدين منذ نعومة أظفاره ، فأدخله مدرسة "الإسعاف الخيري" حتى أنهى الخامس الابتدائي سنة (1363هـ-1942م) ، وكان الصف الخامس آنئذٍ هو نهاية المرحلة الابتدائية . في وقت كانت الحاجة إلى المال تضغـط على أسرته ، مما اضطره إلى ترك العلم من أجل العمل لسد حاجته المالية ، فعمل في تصليح الساعات في محلة "المسكية" بدمشق ، لكنه ما زال شغوفًا بالعلم .
وهكذا كان يعمل في النهار ويدرس القرآن والفقه في المساء . ولحسن حظه أن صاحب العمل كان رجلاً أزهريًا (يدعى الشيخ سعيد الأحمر التلي) كان محيطًا بالعلم الشرعي ، فكان أيضًا يعلمه الدين واللغة ، فلما رأى نبوغه وشدة حفظه للقرآن والحديث النبوي الشريف ، قرر أن يرسله إلى حلقات العلم ، قال له : "يا بني أنت لا تصلح إلا للعلم" . فسلمه إلى الشيخ عبد الرزاق الحلبي - الذي ما زال إلى اليوم مديرًا للجامع الأموي الكبير في دمشق - لينضم إلى حلقة من حلقاته العلمية .
يقول الشيخ : "كنت في فترة الاستراحة بين الحصص المدرسية أحفظ خمسة أحاديث ، كنت متمتعًا بذاكرة طيبة ، وقدرة على الحفظ كبيرة بحمد الله تعالى وعونه" .
وبالرغم من أن الشيخ لم يتابع تعليمه المدرسي بعد ذلك ، لكنه تلقى علومه على يد علماء عصره في الشام ، فقد درس على بعض الشيخ الألبان الأجلاء ، منهم الشيخ "سليمان غاوجي الألباني" رحمه الله حيث درس من الفقه وعلم الصرف ، وقرأ القرآن وجوّده على الشيخ "صبحي العطار" رحمه الله : ثم على الشيخ "محمود فايز الديرعطاني" رحمه الله ، وقرأ على الشيخ "محمد صالح الفرفور" رحمه الله اللغة العربية والفقه الحنفي والتفسير والمعاني والبيان والبديع ، ولازمه فترة من الزمن تقارب العشر سنوات مع طلابه ، وغيرهم من شيوخ الشام . والشيخ لا يعدد أحدًا من تلامذته ، ويظهر تواضع شيخنا أنه يعتبر الذين درّسهم طوال السنين السالفة هم أخوة له يتدارس معهم العلوم الشرعية
رباه والده على ألا ينسى بلده ، وهكذا علّمه الألبانية منذ صغره ، وهي إلى اليوم لغة منزله ، فهو يتحدث مع أهله وأولاده بالألبانية كما لاحظت ، وقد يسّرت له هذه اللغة التواصل مع أقربائه وأبناء بلاده ، مما جعله يرتحل إليها في كل عام للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فترك آثارًا لا تمحى في الإحياء الإسلامي هناك.
زار الشيخ بلدانًا عدة من العالم الإسلامي داعيًا وعالمًا يدرّس في المساجد ويشارك في المؤتمرات والندوات العلمية .
خلافه مع الشيوخ
بات معروفًا أن ثمة خلافًا حادًا قام بينه وبين عدد من شيوخ الشام ، وبالرغم من أن ظاهر خلافه معهم يعود إلى عدم التزامه مذهبًا معينا في الفتوى ، فهو يرى أن "العالم الحقيقي لا يتقيد بقول عالم واحد مهما كان شأنه" بل يتبع الدليل "ولا يحق أن يكون مقلدًا" ، وإن كان يرى أن العامي لا مذهب له ، ومذهبه مذهب مفتيه ، فالتزامه بالمذهب أمر ضروري طبيعي ، وبالرغم من أن الشيخ لم يدَّعي الاجتهاد ، لكنه لا يرض بالتقليد دون معرفة الدليل .
والحقيقة أن اللا مذهبية وحدها لم تكن المشكلة الأساسية ، وإنما نزوع الشيخ "السلفي" (وانتقاده للغلو في التصوف) الذي يتضارب مع روح التصوف السائدة في بلاد الشام رغم أنه لا يرى مانعًا من التصوف عندما يكون " بمعنى الرقائق التي تليّن القلوب وتهذَّب النفوس" . وقد حققت له سلفيته المعتدلة وشخصيته المرحة وجرأته ووضوحه ، المعروفان شعبية كبيرة ، فأثارت حسدهم .
جهوده في التعليم
فيما عدا دروسه الكثيرة في المساجد ، عمل الشيخ مدرسًا لعلوم القرآن والحديث النبوي الشريف بين عامي (1952-1959م) في مدرسة "الإسعاف الخيري" التي تخرج فيها من قبل ، وأدرك فيها شيخه صبحي العطار رحمه الله ، وفي عام 1960م (1381هـ) انتقل إلى المعهد العربي الإسلامي بدمشق ، فدرّس القرآن والفقه ، وقد كان إلى فترة يدرّس في معهد "الفرقان" بالمزة ، ومعهد المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسيني ، لكنه الآن وقد ضيّق عليه ، فجرّد من كل هذه الوظائف لم يبق له سوى درس أسبوعي واحد في أحد جوامع دمشق ، مرة في الأسبوع .
كان خطيبًا لمدة خمسة عشر عامًا في جامع "الديوانية البرانية" بدمشق القديمة منذ عام 1948هـ (1369هـ) ثم انتقل إلى جامع "عمر بن الخطاب" في القدم . الذي كان الشيخ نفسه وراء بنائه بمساعدة أهل الخير ، وبقي فيه خطيبًا لمدة عشر سنوات ، ثم أصبح خطيبًا لعشر سنوات أخرى في جامع "الإصلاح" وفي منطقة الدحاديل ، ثم أصبح خطيبًا لجامع "المحمدي" بالمزة لثماني سنوات أعفي بعدها من الخطابة بشكل كامل بتداعيات خلافه مع الشيوخ ، كما مُنع من الحديث في المناسبات الرسمية ، ورغم ذلك فهو لا يفتأ يخالط الناس ويشاركهم أفراحهم وأتراحهم فبقي قريبًا من قلوبهم .
جهوده العلمية في الحديث الشريف
ليس للشيخ اجتهاد خاص في علم مصطلح الحديث، وإنما يفضل العمل بآراء علماء الحديث وشرطه، وهو لذلك يأخذ برأي الإمام النووي - رحمه الله - في تصحيح الحديث وتضعيفه ، الذي يقول فيه "يجوز لمن ملك خبرة بهذا الفن وقويت معرفته ، أن يصحح ويحسّن حسب قواعد مصطلح الحديث عند العلماء" ، ففي الحديث المرسل - مثلاً - يقول الشيخ الأرناؤوط : "أعمل برأي الإمام الشافعي رحمه الله الذي يقول بأن المرسل ضعيفه لا يُعمل به إلاّ إذا وجد للحديث طرق وشواهد، فعند ذلك يعمل به" .
وفي حكم الأخذ عن أصحاب البدع والأهواء يقول : "وقد احتج بعض الأئمة برواية المبتدعة الدعاة وغير الدعاة ، فقد احتج البخاري بعمران بن حطان وهو من دعاة الشراة ، وبعبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني وكان داعية إلى الإرجاء.. والحق في هذه المسألة - كما قاله العلامة محمد نجيب المطيعي في حاشيته على (نهاية السول) قبول رواية كل من كان من أهل القبلة يصلي بصلاتنا ويؤمن بكل ما جاء به رسولنا ، فإن من كان كذلك لا يمكن أن يبتدع بدعة ، إلا وهو متأول فيها ، مستند في القول بها إلى كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بتأوّل" رآه باجتهاده ، وكل مجتهد مأجور وإن أخطأ ، أما إن كان ينكر أمرًا متواترًا من الشرع ثابتًا بالكتاب والسنة وإجماع الأمة معلومـًا من الدين بالضرورة أو اعتقد عكسه ، كان كافرًا مجاهرًا فلا يقبل مطلقًا…" .
ويؤكد الشيخ على أن "سلامة المعتقد" شرط ضروري عند المحدّث لأنه يؤثر في منهجه ، وعلى ما سبق تأسس منهجه في تحقيق الحديث ، فهو يحرص كل الحرص على بيان درجة كل حديث مما لم يرد في أحد "الصحيحين" (البخاري ومسلم) ، من حيث الصحة والضعف ، حسب الأصول والقواعد المتبعة في علم المصطلح ، فيذكر ما يقال في رجال الحديث ممن تُكلّم فيهم ، مسترشدًا بأقاويل جهابذة الحديث ونقاده .
وإذا كان الخبر ضعيفًا فإنه يبحث في طرقه المختلفة وشواهده ، فإذا تقوّى بتعدد الطرق ، أو بالشواهد حكم عليه بالصحة أو الحسن تبعًا لمنزلة تلك الطرق والشواهد ، وما لم يجد له ما يقويه يحكم عليه بالضعف معززًا ما ذهب إليه الحفّاظ من أئمة الحديث الذين عنوا بذلك .
وكان منهجه في تحقيقه لكتاب "جامع الأصول" الذي استشهر به ، أنه يقتصر على تصحيح النص وضبطه ومقابلته مع الأصول الخطية التي حصل عليها ، والأصول الستة التي جمع المؤلف كتابه منها ، حيث بدأ بترقيمه وتفصيله ، ثم ألم بمذاهب الأئمة المجتهدين ، وذكر جملاً من الاستنباطات الجديدة وتتبع الأحاديث التي لم يلتزم أصحابها إخراج الصحيح (كأبي داوود والترمذي والنسائي) وتكلم عن كل حديث من جهة الصحة والضعف ، لأن المؤلف (ابن الأثير) لم يتطرق إلى ذلك ، واستشهد بأحاديث من خارج الكتاب (المسانيد والمصنفات الأخرى) ، وقد أعاد الشيخ مؤخرًا النظر فيه من جديد فزاد عليه رواية ابن ماجة وغير ذلك وهو بصدد إصداره .
يعرض الشيخ عمومًا عن التأليف لأنه يجد نفسه أمام مهمة يؤمن أنها أهم منه ، وهكذا يبرر ذلك بقوله : "… المؤلفات كثيرة ، والتحقيق أولى ، وذلك حتى أقدم الكتاب إلى طالب العلم محققًا ومصححًا حتى يستفيد منه.." .
لأجل ذلك نجد ندرة في مؤلفاته ، التي لم تتجاوز أصلاً بعض الرسائل الصغيرة ، منها رسالة بعنوان "الوجيز في منهج السلف الصالح" والذي دعاه إلى كتابتها عدم فهم كثير من الناس العقيدة السليمة فهمًا صحيحًا ، وكثرة من يتكلم في هذا الموضوع وهو لا يحسنه ، وله أيضًا رسالة بعنوان "وصايا نبوية" شرح فيها خمسة أحاديث نبوية ، مطبقًا بذلك قول بشر بن الحارث الحافي رحمه الله حيث قال : "يا أصحاب الحديث : أدوا زكاة الحديث من كل مائتي حديث خمسة أحاديث" وقد اختارها في العقيدة والأخلاق .
تحقيقاته لمصنفات الحديث الشريف
كان باكورة أعماله تحقيقه لكتاب "غاية المنتهى" في الفقه الحنبلي ، وكان الشيخ جميل الشطي رحمه الله قد بدأ به ولم يتمه ، فطلب من الشيخ إتمامه .
وفي بداية الستينات انتظم الشيخ للعمل مدرسًا لقسم التحقيق والتصحيح في المكتب الإسلامي بدمشق ، وذلك بصحبة الشيخ شعيب الأرناؤوط - حفظه الله - واستمر في عمله هذا حتى عام (1968-1389هـ) تقريبًا .
ومنذ تلك الفترة قام الشيخ بالاشتراك مع الشيخ المحقق شعيب الأرناؤوط بتحقيق وتصحيح العديد من الكتب الإسـلامية التي صدرت عن المكتب الإسلامي ، وأهمها :
- زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (9 مجلدات) .
- المبدع في شرح المقنع - لابن مفلح ( 8 مجلدات) .
- روضة الطالبين وعمدة المفتين - للنووي (12 مجلدًا) .
- زاد المعاد في هدي خير العباد - لابن القيم (5 مجلدات) .
- جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام - لابن القيم (مجلد) .
يقول الشيخ عن نفسه : "إني بعونه تعالى قد حققت أكثر من خمسين كتابًا كبيرًا وصغيرًا في الفقه والحديث والتفسير والأدب وغيرها ، وهي موجودة في العالم الإسلامي…" .
ومن أهم الكتب التي حققها الشيخ بمفرده : كتاب "جامع الأصول" لابن الأثير ، الذي أشرنا إليه سابقًا ، وقد استغرق عمله في هذا التحقيق مدة خمس سنوات كاملة ، كما أنه كان سببًا لشهرته ، ومن بين الكتب الأخرى نجد :
- مختصر شعب الإيمان - للبيهقي .
- الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان - لابن تيمية .
- كتاب التوابين - لابن قدامة المقدسي .
- كتاب الأذكار - للنووي .
- كتاب الشفا في تعريف حقوق المصطفى - للقاضي عياض .
- كفاية الأخيار - للحصني .
- شمائل الرسول - لابن كثير .
- الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة - لمحمد صديق حسن خان .
وغيرها .
وهو الآن مشغول بكتاب "النهاية" لابن كثير الدمشقي ، لإعداده للطباعة .
(تنبيه : استعنا في هذه المادة بالكتاب الذي قدّمه الشيخ لنا وهو "كشف اللثام عن أحد محدّثي الشام" المحدث الشيخ عبد القادر الأرناؤوط ، جمع وإعداد محمود محمد جميل ، دار المأمون للتراث ، بيروت ط1 /2000) .
...................