قيمة المرء على قدر همته، وإذا علت الهمة لم ترض بالدون، ولا تقف همة إلا لخساستها، ولابد للسالك من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه، والدعاة إلى الله أكثر السالكين حاجة إلى علو الهمم مع وجود البصيرة، وإذا جاز لهمة أي أحد أن يصيبها العجز والكسل أو الوقوف والسكون أو حتى قليل الملل والفتور فإن الداعية لا ينبغي له أن يدع لهمته الفرصة لذلك، إذ كيف يلتـذ داعية براحة وهـم قد لقنوه من أول يوم أن ينشد:
في ضميري دائماً صوت النبي **** آمراً: جاهد و كابد و اتعب
صائحـاً: غالب و طالب و ادأب **** صارخاً: كـــــن أبداً حراً أبي
و كيف يميل إلى استرخاء، و أصحابه يهتـفون:
نَبني، ولا نتكل **** نفني، ولا ننخذل
لـنا يـد والـعـمـل **** لـنـا غـد والأمـل
إن حرية الداعية، والأمل الذي يستيقنه: يدفعان به دفعاً إلى البذل السخي.
عـلـو فـي الـحـيـاة:
حرية.... و أمل
حرية تكسر قيود الشهوات .. و أمل بالأجر، وثقة بالنصر
كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في ميزان التصارع العقائدي، كانتا دوماً في تاريخ التوحيد الطويل، تأخذان التعب من أجيال الدعاة من النبيين والصديقين والراشدين و التابعين و من لحقهم بإحسان على مر القرون ، فكلهم بالتعب كانوا يفرحون يأبون إلا العلو في الحياة ونحن إن شاء الله بهم لمقتدون.
كان تعبهم يتمثل أحياناً بحركة يومية دائبة في الإنذار والتبشير، والتجميع والتبصير، أو سهـراً على رعاية مصالح المسلمين. و يتمثـل أحياناً في انكباب على التعلم واجتياز المفاوز لحيازة حديث أو كلمات فقه.
ويتجسد في أخرى قتالاً، وتحفيزاً دائماً لجهاد وعـلو موت. وفي أخرى إشغالاً للفكـر في التخطيط. فإن أخذوا راحة، واستلقـوا على ظهورهم: لبث ذهنهم يصطاد الخاطر. وكل ذلك حكى التاريخ، ليتعلم الدعاة اليوم.
نـطـق بـالليـل والنهـار:
فأول من يطالعنا: الأنبياء عليهم السلام. كان لسانهم ناطقاً بالليل والنهار، والإعلان والإسرار. قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام: {قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً} , ثم قال: {ثم إني دعوتهم جهاراً ثم إني أعلنت لهم وأسررت لهم إسراراً}.
ونـطـق أثنـاء خطـوات الهجرة:
"والواقع أن الداعي إذا كان صادقاً في دعوتـه منشغلاً بها لا يفكـر إلا فيها ولا يتحرك إلا من أجلها ولا يبخل عليها بشيء من جهده ووقته لم يشغله عنها شاغل أبداً حتى في أحرج الساعات وأضيق الحالات وأدق الظروف، وهكذا كان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فعندما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقي في طريقه بريدة بن الحصيب الأسلمي في ركب من قومه فيما بين مكة والمدينة، فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا. وهذ يدل أنه عليه الصلاة والسلام لم يغفل عن الدعوة إلى الله حتى وهـو في طريقه مهاجراً إلى المدينة و القوم يطلبونه " .
و نطـق في السجـن:
"ويوسف عليه السلام عندما دخل السجن مظلوماً لم يشغله السجن و ضيقه عن واجب الدعوة إلى الله ولهذا فقد اغتنم سؤال السجينين عن رؤيا رأياها، فقال لهما قبل أن يجيبهما ما أخبرنا الله به: {يا صاحبي السجن أأرباب متـفرقون خيـر أم الله الواحد القهار} "
الراشـد يمنع النـوم:
وقاربهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه حتى قال عند وفاته: "والله ما نمت فحلمت، ولا توهمت فسهوت، وإني لعلى السبيل ما زغت". يعني أنه قد شغلته حروب الردة و الفتوح وأرهقه إرساء جهاز الدولة، حتى أنه ما كان ليستغرق في نومه ليتاح له أن يحلم، و ظل يزاد بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الصديقية ليهبه الله تعالى يقظة أثناء هذا التعب تبعد عنه الوهم والسهو.
الترابي ...!
ويترجم عبدالله بن عباس رضي الله عنه انغماسه في صورة جمع بين التواضع والصبر على مشقة التعلم وجمع الحديث، حتى أن الريح لتسفي عليه التراب، يرجو بذلك أن يستـنشق نسمات الجنة، ويجتاز الصراط بلا حساب.
واسمعه يروي ما كان منه ويـقول: (أقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحديث، فإن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل، فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علي التراب، فيخرج فيقول لي: يابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلـت إلي فآتيك؟ فأقول: لا، أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث). ولو شاء أن يوقظوه لأيقظوه له مع الفرح، ولكن الهمم العالية تطرب لصفير الرياح ولفحات التراب.
هـوايـة رفع الأثـقـال
والداعية اللبيب يسابق أصحابه لحمل كل ثقيل من الأمور، فيكون يوم الجمع صاحب الميزان الثقيل، كما تسابق النخعيون يوم معركة القادسية. قال أحد الصحابة منهم: "أتينا القادسية، فقتل منا كثير، و من سائر الناس قليل، فسئل عمر عن ذلك فقال: أن النخَع ولوا عِظَم الأمر وحدهم ".
وما كان أحد ممن حضر القادسية إلا وأبلى، و لكن الدعاة إلى الله لهم هواية التسابق في رفع الأثقال.
حصـن التربية الأسديـة
والذروة يعلوها التابعي العابد الفقيه المحدث الجليل أبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي، نتاج تربية الأربعة الراشدين وابن مسعود و سعد بن أبي وقاص وغيرهم، فإنه عاف التجارات والبيوت وبنى له في الكوفة حصناً صغيراً يسعه هو وفرسه وسلاحه فقط، وبقي طول عمره متحفزاً للجهاد، حتى لم يعد يعرف موازين السوق التي يتعامل بها الناس. تجرد حق التجرد، فأنتج حق الإنتاج ذرية تجرد تتبعه، يعلم الدعاة بذلك طريق إنتاج الرجال باستخدام وسائل الإيضاح البصرية المجسدة.
أنتج أبو وائل أمثال: سليمان الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وحصين بن عبد الرحمن، وعمرو بن مرة، وغيرهم من فحول المحدثين.
إن من لا يفهم التربية يظن أن بناء هذا الحصن من التكلف والرياء، وما هو كذلك.
ذهب الفـراغ....!
ويموت شقيق الأسدي مع نهاية قرن الخيـر الأول، فيبادر الراشد الخامس عمر بن عبدالعزيز إلى ضرب الأمثال. تصفـه زوجه فاطمة بنت عبد الملك فتقول: " كان قد فرّغ للمسلمين نفسَـه، ولأمورهم ذهنه، فكان إذا أمسى مساءً لم يفرغ فيه من حوائج يومه: وصل يومه بليلتـه". يضرب المثـل بذلك لداعية الإسلام إن أراد أن يصدق دعوته و يؤدي الأمانة.
صدق الداعية: أن يجدد أطوار عمر فيفرغ نـفسه للمسلمين، فلا تجـد له حركة دنيوية إلا بمقـدار ما توجبه ضروريات إطعام عياله. ويفرغ ذهنه، فليس فيه إلا تفكر بمصالح الدعـوة.
ويتعرض أصدقاءٌ قدماء لعمر، من أصدقائه قبل الخلافة يوم كان فارغاً، يودون أن تكون لهم معه جلسة يعيدون فيها الذكريات، فيقولون: "لو تـفرغت لنا"، فيقول: "وأين الفراغ؟ ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله".. يـلـقـنها لمن يدخل الدعوة بعده إذا دعاهم رفاق الأمس إلى قـتـل الأوقات.
موفق يجوب بحقيبـة العـلم راجـلاً
ويستمر تلامذة أحمد بن حنبل، وأتباع مذهبه من بعده، يضعون وسائل الإيضاح البصرية في الاستخدام التربوي، فإنهم كما وصفهم الفقيه النحوي ابن عقيل: "غلب عليهم الجد، وقـل عندهم الهزل".
فمن تلامذتـه: الحافظ الإمام الفقيه الزاهد المحدث: إسحاق بن منصور المعـروف بالكوسج، شيخ البخاري ومسلم وغيرهما. كان يسكـن نيسابور بخرسان، فرحل إلى بغداد ودوّن عن أحمد بن حنبل مسائـل في الفقه كثيرة، ورجع إلى نيسابور، ثم إنه: (بلغه أن أحمد بن حنبل رجع عن بعض تلك المسائل، فحملها في جراب على كتفـه، وسافر راجلاً إلى أحمد، ثم عرض خطوط أحمد على كل مسألة استفتاه عنها فأقرّ له بها وأعجب به).. وأحدنا الآن يجلس على أريكته وبجنبه مسند أحمد مطبوعاً محققاً مجلداً مذهباً يتكاسل أن ينظر فيه.
الحنابلة يحفظون السمت
ويرسم ابن عقيل، النحوي الفقيه الحنبلي، صورة الداعية الذي لا تكون خطراته وسبحات فكره - بل أحلامه إذ ينام - إلا في الدعوة، ويجلي ذلك بقوله: "إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة ومناظرة، وبصري عن مطالعة: أعملت فكري في حال راحتي وأنا مستطرح".. فانظر، كم ساعة من نهارك وليلك تضيع سدى؟
وخلفه الشيخ الزاهد الفقيه محمد بن أحمد الدباهي. قالوا: (لازم العبادة، والعمل الدائم والجد، واستغرق أوقاته في الخير.. صَلْبٌ في الدين، وينصح الإخوان، وإذا رآه إنسان: عرف الجد في وجهه).
وهكذا يجب أن تكون دائماً علامة الدعاة سيماهم في الجد ظاهرة في وجوههم، لا يخطؤها النظر. ليس لهم نصيب من الهزل والضحك والبطالة.
ـــــــــــــــ
محمد أحمد الراشد: بتصرف يسير