الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم ( 27 ) )

يقول - تعالى ذكره - : ولو أن شجر الأرض كلها بريت أقلاما ( والبحر يمده ) يقول : والبحر له مداد ، والهاء في قوله : ( يمده ) عائدة على البحر . وقوله : ( من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) وفي هذا الكلام محذوف استغنى بدلالة الظاهر عليه منه ، وهو يكتب كلام الله بتلك الأقلام وبذلك المداد ، لتكسرت تلك الأقلام ، ولنفد ذلك المداد ، ولم تنفد كلمات الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية ، عن أبي رجاء قال : سألت الحسن عن هذه الآية ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) قال : لو جعل شجر الأرض أقلاما ، وجعل البحور مدادا ، وقال الله : إن من أمري كذا ، ومن أمري كذا ، لنفد ماء البحور ، وتكسرت الأقلام .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا الحكم قال : ثنا عمرو في قوله : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) قال : لو بريت أقلاما والبحر مدادا ، فكتب بتلك الأقلام منه ( ما نفدت كلمات الله ) ولو مده سبعة أبحر .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله : [ ص: 152 ] ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) قال : قال المشركون : إنما هذا كلام يوشك أن ينفد ، قال : لو كان شجر البر أقلاما ، ومع البحر سبعة أبحر ما كان لتنفد عجائب ربي وحكمته وخلقه وعلمه .

وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سبب مجادلة كانت من اليهود له .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا يونس بن بكير قال : ثنا ابن إسحاق قال : ثني رجل من أهل مكة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن أحبار يهود قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة : يا محمد ، أرأيت قوله : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) إيانا تريد أم قومك ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " كلا " ، فقالوا : ألست تتلو فيما جاءك : أنا قد أوتينا التوراة فيها تبيان كل شيء ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إنها في علم الله قليل وعندكم من ذلك ما يكفيكم " ، فأنزل الله عليه فيما سألوه عنه من ذلك ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل .

حدثنا ابن المثنى قال : ثني ابن عبد الأعلى قال : ثنا داود ، عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الروح ، فأنزل الله ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة ، وهي الحكمة ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) قال : فنزلت ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) قال : ما أوتيتم من علم فنجاكم الله به من النار ، وأدخلكم الجنة ، فهو كثير طيب ، وهو في علم الله قليل .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن بعض أصحابه ، عن عطاء بن يسار قال : لما نزلت بمكة ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) يعني : اليهود ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود ، فقالوا : يا محمد ، ألم يبلغنا أنك تقول : ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) أفتعنينا أم قومك ؟ قال : " كلا قد عنيت " ، قالوا : فإنك تتلو أنا قد أوتينا التوراة وفيها تبيان [ ص: 153 ] كل شيء ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " هي في علم الله قليل ، وقد آتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم " ، فأنزل الله : ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ) إلى قوله : ( إن الله سميع بصير ) .

واختلفت القراء في قراءة قوله : ( والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ) فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة : ( والبحر ) رفعا على الابتداء ، وقرأته قراء البصرة نصبا ، عطفا به على " ما " في قوله : ( ولو أنما في الأرض ) ، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب عندي . وقوله : ( إن الله عزيز حكيم ) يقول : إن الله ذو عزة في انتقامه ممن أشرك به ، وادعى معه إلها غيره ، حكيم في تدبيره خلقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية