[ ص: 339 ] المسألة التاسعة
ما ذكر في هذه المسائل من أن المسببات غير مقدورة للمكلف ، وأن السبب هو المكلف به إذا اعتبر ، ينبني عليه أمور :
أحدها : أن فقد قصد محالا ، وتكلف رفع ما ليس له رفعه ، ومنع ما لم يجعل له منعه ، فمن عقد نكاحا على ما وضع له في الشرع أو بيعا أو شيئا من العقود ، ثم قصد أن لا يستبيح بذلك العقد ما عقد عليه ، فقد وقع قصده عبثا ، ووقع المسبب الذي أوقع سببه ، وكذلك إذا أوقع طلاقا أو عتقا قاصدا به مقتضاه في الشرع ، ثم قصد أن لا يكون مقتضى ذلك فهو قصد باطل ، ومثله في العبادات إذا صلى أو صام أو حج كما أمر ، ثم قصد في نفسه أن ما أوقع من العبادة لا يصح له أو لا ينعقد قربة ، وما أشبه ذلك فهو لغو ، وهكذا الأمر في الأسباب الممنوعة ، وفيه جاء : متعاطي السبب إذا أتى به بكمال شروطه ، وانتفاء موانعه ، ثم قصد أن لا يقع مسببه يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا الآية [ المائدة : 87 ] .
[ ص: 340 ] ومن هنا كان تحريم ما أحل الله عبثا من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والنكاح ، وهو غير ناكح في الحال ، ولا قاصد للتعليق في خاص بخلاف العام ، وما أشبه ذلك ; فجميع ذلك لغو ; لأن ما تولى الله حليته بغير سبب من المكلف ظاهر مثل ما تعاطى المكلف السبب فيه ، ومثله قوله عليه الصلاة والسلام : ، وقوله : إنما الولاء لمن أعتق الحديث . من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط
وأيضا ; فإن الشارع قاصد لوقوع المسببات عن أسبابها كما تقدم ، فقصد هذا القاصد مناقض لقصد الشارع ، وكل قصد ناقض قصد الشارع فباطل ; [ ص: 341 ] فهذا القصد باطل ، والمسألة واضحة .
فإن قيل : هذا مشكل من وجهين :
أحدهما : أن فإذا كان اختياره منافيا لاقتضاء الأسباب لمسبباتها ، كان معنى ذلك أن الأسباب لم يتعاطها المكلف على كمالها ، بل مفقودة الشرط ، وهو الاختيار فلم تصح من جهة فقد الشرط ; فيلزم أن تكون المسببات الناشئة عن الأسباب غير واقعة لفقد الاختيار . اختيار المكلف وقصده شرط في وضع الأسباب ،
والثاني : أن حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب ، وتعاطي الأسباب المبيحة مثلا بقصد أن لا تكون مبيحة مناقضة لقصد الشارع ظاهرة ، من حيث كان قصد الشارع التحصيل بوساطة هذه الأسباب ، فيكون إذا تعاطي هذه الأسباب باطلا وممنوعا ، كالمصلي قاصدا بصلاته ما لا تجزئه لأجله ، والمتطهر يقصد أن لا يكون مستبيحا للصلاة ، وما أشبه ذلك ، فالجمع بين هذا الأصل والأصل المذكور جمع بين متنافيين ، وهو باطل . القصد المناقض لقصد الشارع مبطل للعمل
فالجواب عن الأول : أن الفرض إنما هو في موقع الأسباب بالاختيار لأن تكون أسبابا ، لكن مع عدم اختياره للمسبب ، وليس الكلام في موقعها بغير اختيار ، والجمع بينهما ممكن عقلا ، لأن أحدهما سابق على الآخر فلا يتنافيان ، كما إذا قصد الوطء واختاره وكره خلق الولد أو اختار وضع البذر في الأرض وكره نباته أو رمى بسهم صوبه على رجل ثم كره أن يصيبه ، وما أشبه [ ص: 342 ] ذلك فكما يمكن اجتماعهما في العاديات فكذلك ; في الشرعيات .
والجواب عن الثاني : أن فاعل السبب في مسألتنا قاصد أن يكون ما وضعه الشارع منتجا غير منتج ، وما وضعه سببا فعله هنا على أن يكون سببا لا يكون له مسبب ، وهذا ليس له فقصده فيه عبث ، بخلاف ما هو مذكور في قاعدة مقاصد الشارع ; فإن فاعل السبب فيه قاصد لجعله سببا لمسبب لم يجعله الشارع مسببا له ، كنكاح المحلل عند القائل بمنعه ; فإنه قاصد بنكاحه التحليل لغيره ، ولم يضع الشارع النكاح لهذا المسبب ، فقارن هذا القصد العقد فلم يكن سببا شرعيا ; فلم يكن محللا لا للناكح ، ولا للمحلل له لأنه باطل .
وحاصل الأمر أن أحدهما أخذ السبب على أنه ليس بسبب ، والآخر أخذه على أنه سبب لا ينتج ; فالأول لا ينتج له شيئا ، والآخر ينتج له ; لأنه ليس الإنتاج باختياره ، ولا عدمه فهذا لم يخالف قصد الشارع في السبب من حيث هو سبب ، ولكن زعم أنه لا يقع مسببه ، وهذا كذب أو طمع في غير مطمع ، والأول تعاطاه على أنه ليس بالسبب الموضوع للشارع فاعرف الفرق بينهما فهو دقيق .
ويوضحه أن القصد في أحدهما مقارن للعمل فيؤثر فيه ، والآخر تابع له بعد استقراره فلا يؤثر فيه .
[ ص: 343 ] فإن قيل : لم لا يكون هذا في الحكم كالرفض في العبادات ; فإنه في الحقيقة رفض لكونه سببا شرعيا ، فالطهارة مثلا سبب في رفع الحدث ، فإذا قصد أنها لا ترفع الحدث فهو معنى رفض النية فيه ، وقد قالوا : إن رفض النية ينتهض سببا في إبطال العبادة فرجع البحث إلى أن ذلك كله إبطال لأنفس الأسباب لا إبطال المسببات .
فالجواب : أن الأمر ليس كذلك ; ، وإنما يصح الرفض في أثناء العبادة إذا كان قاصدا بها امتثال الأمر ، ثم أتمها على غير ذلك ، بل بنية أخرى ليست بعبادته التي شرع فيها ، كالمتطهر ينوي رفع الحدث ، ثم ينسخ تلك النية بنية التبرد أو التنظف من الأوساخ البدنية ، وأما بعد ما تمت العبادة ، وكملت على شروطها ; فقصده أن لا تكون عبادة ، ولا يترتب عليها حكم آخر من إجزاء أو استباحة أو غير ذلك غير مؤثر فيها ، بل هي على حكمها لو لم يكن ذلك القصد ; فالفرق بينهما ظاهر .
ولا يعارض ذلك كلام من تكلم في الرفض ، وقال : إنه يؤثر ، ولم يفصل [ ص: 344 ] القول في ذلك ; فإن كلام الفقهاء في رفض الوضوء ، وخلافهم فيه غير خارج عن هذا الأصل ، من جهة أن الطهارة هنا لها وجهان في النظر ، فمن نظر إلى فعلها على ما ينبغي قال : إن استباحة الصلاة بها لازم ، ومسبب عن ذلك الفعل ، فلا يصح رفعه إلا بناقض طارئ ، ومن نظر إلى حكمها ، ـ أعني حكم استباحة الصلاة مستصحبا إلى أن يصلي ، وذلك أمر مستقبل ـ فيشترط فيه استصحاب النية الأولى المقارنة للطهارة ، وهي بالنية المنافية منسوخة ، فلا يصح استباحة الصلاة الآتية بها ; لأن ذلك كالرفض المقارن للفعل ، ولو قارن الفعل لأثر ، فكذلك هنا فلو رفض نية الطهارة بعدما أدى بها الصلاة ، وتم حكمها ، لم يصح أن يقال : إنه يجب عليه استئناف الطهارة والصلاة ; فكذلك من صلى ، ثم رفض تلك الصلاة بعد السلام منها ، وقد كان أتى بها على ما أمر به ; فإن قال به في مثل هذا فالقاعدة ظاهرة في خلاف ما قال . والله أعلم وبه التوفيق .
هذا ، وأما إذا [ ص: 345 ] لم تفعل الأسباب على ما ينبغي ، ولا استكملت شرائطها ، ولم تنتف موانعها ، فلا تقع مسبباتها ، شاء المكلف أو أبى ; لأن المسببات ليس وقوعها أو عدم وقوعها لاختياره . حكم الأسباب إذا فعلت باستكمال شرائطها ، وانتفاء موانعها
وأيضا ; فإن الشارع لم يجعلها أسبابا مقتضية إلا مع وجود شرائطها وانتفاء موانعها ، فإذا لم تتوفر لم يستكمل السبب أن يكون سببا شرعيا ، سواء علينا أقلنا إن الشروط وانتفاء الموانع أجزاء أسباب أم لا فالثمرة واحدة .
وأيضا ; لو اقتضت الأسباب مسبباتها ، وهي غير كاملة بمشيئة المكلف أو ارتفعت اقتضاءاتها وهي تامة ، لم يكن لما وضع الشارع منها فائدة ، ولكان وضعه له عبثا ; لأن معنى كونها أسبابا شرعية هو أن تقع مسبباتها شرعا ، ومعنى كونها غير أسباب شرعا أن لا تقع مسبباتها شرعا ; فإذا كان اختيار المكلف يقلب حقائقها شرعا لم يكن لها وضع معلوم في الشرع ، وقد فرضناها موضوعة في الشرع على وضع معلوم ، هذا خلف محال ; فما يؤدي إليه مثله ، وبه يصح أن اختيارات المكلف لا تأثير لها في الأسباب الشرعية .
فإن قيل : كيف هذا مع القول بأن النهي لا يدل على الفساد أو بأنه يدل على الصحة أو بأنه يفرق بين ما يدل على النهي لذاته أو لوصفه ; فإن هذه المذاهب تدل على أن التسبب المنهي عنه ـ وهو الذي لم يستكمل الشروط ، ولا [ ص: 346 ] انتفت موانعه ـ يفيد حصول المسبب ، وفي مذهب مالك ما يدل على ذلك ; فإن البيوع الفاسدة عنده تفيد من أولها شبهة ملك عند قبض المبيع ، وأيضا ; فتفيد الملك بحوالة الأسواق ، وغير ذلك من الأمور التي لا تفيت العين ، وكذلك الغصب ونحوه يفيد عنده الملك ، وإن لم تفت عين المغصوب في مسائل ، والغصب أو نحوه ليس بسبب من أصله ، فيظهر أن السبب المنهي عنه يحصل به المسبب إلا على القول بأن النهي يدل على الفساد مطلقا .
فالجواب : أن القاعدة عامة ، وإفادة الملك في هذه الأشياء إنما هو لأمور أخر خارجة عن نفس العقد الأول ، وبيان ذلك لا يسع هاهنا ، وإنما يذكر فيما بعد هذا إن شاء الله .