الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 457 ]

                الثالث : العزيمة لغة : القصد المؤكد ، وشرعا : الحكم الثابت لدليل شرعي خال عن معارض . والرخصة لغة : السهولة ، وشرعا : ما ثبت على خلاف دليل شرعي ، لمعارض راجح . وقيل : استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر .

                التالي السابق


                قوله : " الثالث " أي : الأمر الثالث من الأمور التي هي كاللواحق لكليات خطاب الوضع ، وهو العزيمة والرخصة .

                " فالعزيمة لغة " أي : في اللغة ، هي " القصد المؤكد " ، ومنه قوله تعالى : فإذا عزمت فتوكل على الله [ آل عمران : 159 ] .

                قال الجوهري : عزمت على كذا عزما وعزما بالضم ، وعزيمة وعزيما ، إذا أردت فعله وقطعت عليه ، قال الله تعالى : ولم نجد له عزما [ طه : 115 ] . " وشرعا " أي : والعزيمة في الشرع : هي " الحكم الثابت لدليل شرعي خال عن معارض " وهو معنى قول أبي محمد : هي الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي .

                فقولنا : الحكم الثابت لدليل شرعي : يتناول الواجب ، والمندوب ، وتحريم الحرام ، وكراهة المكروه . فالعزيمة واقعة في جميع هذه الأحكام . ولهذا قال أصحابنا : إن سجدة ( ص ) ، هل هي من عزائم السجود أو لا ؟ مع أن سجدات [ ص: 458 ] القرآن كلها عندهم ندب .

                وقولنا : لدليل شرعي : احتراز من الثابت لدليل عقلي ، فإن ذلك لا تستعمل فيه الرخصة والعزيمة .

                وقولنا : خال عن معارض : احتراز مما ثبت لدليل شرعي ، لكن لذلك الدليل معارض مساو أو راجح ، لأنه إن كان المعارض مساويا ، لزم الوقف ، وانتفت العزيمة ، ووجب طلب المرجح الخارجي ، وإن كان راجحا ، لزم العمل بمقتضاه ، وانتفت العزيمة ، وثبتت الرخصة ، كتحريم الميتة عند عدم المخمصة هو عزيمة ، لأنه حكم ثابت لدليل خال عن معارض ، فإذا وجدت المخمصة ، حصل المعارض لدليل التحريم ، وهو راجح عليه حفظا للنفس ، فجاز الأكل ، وحصلت الرخصة .

                وقال الآمدي : العزيمة عبارة عما لزم العباد بإلزام الله تعالى . وذكر معناه الشيخ أبو محمد أيضا .

                قلت : وهي على هذا تختص بالواجبات ، وهو أشبه باللغة ، وبلفظ مقابلها ، وهو الرخصة .

                أما اللغة : فقال الجوهري : الرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه ، والتشديد لا يحصل إلا من الواجب فعلا أو كفا .

                وأما لفظ الرخصة ، فإنه يقتضي التسهيل ، فالعزيمة ينبغي أن تقتضي التشديد . وتقريره ما ذكرناه . وقالالقرافي : العزيمة : طلب الفعل الذي لم يشتهر فيه منع شرعي . قال : وإنما قلت : طلب الفعل ، ليخرج أكل الطيبات ونحوها الداخل [ ص: 459 ] في حد الإمام فخر الدين ، حيث عرف العزيمة بجواز الإقدام مع عدم المانع ، فإنه يقتضي أن يكون أكل الطيبات ولبس الثياب ونحوها عزيمة ، لأن الإقدام عليه جائز ، والمانع منه منتف . وعدم اشتهار المانع : احتراز مما إذا اشتهر المانع ، فإن العزيمة تنقلب رخصة .

                قوله : " والرخصة لغة : السهولة " . ومنه : رخص السعر ، إذا سهل ولم يبق في السعر تشديد . والرخص : الناعم ، وهو راجع إلى معنى اليسر والسهولة . وقد سبق كلام الجوهري في أن الرخصة خلاف التشديد .

                قوله : " وشرعا " ، أي : والرخصة في الشرع " ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح " .

                فقولنا : " ما ثبت على خلاف دليل " : احتراز مما ثبت على وفق الدليل ، فإنه لا يكون رخصة ، بل عزيمة ، كالصوم في الحضر .

                وقولنا : " لمعارض راجح " : احتراز مما كان لمعارض غير راجح ، بل إما مساو ، فيلزم الوقف على حصول المرجح ، أو قاصر عن مساواة الدليل الشرعي ، فلا يؤثر ، وتبقى العزيمة بحالها .

                " وقيل : الرخصة : " استباحة المحظور مع قيام السبب الحاظر " وهو قريب من الأول . غير أن الاستباحة قد يكون مستندها الشرع ، فيلزم أن تكون لمعارضة دليل [ ص: 460 ] راجح ، كأكل الميتة في المخمصة ، فإنه استباحة للميتة المحرمة شرعا مع قيام السبب المحرم ، وهو قوله سبحانه وتعالى : حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] ، لدليل شرعي راجح على هذا السبب ، وهو قوله سبحانه وتعالى : فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم [ المائدة : 3 ] ، فإن هذا خاص ، وسبب التحريم عام ، والخاص مقدم . هذا مع النصوص والإجماع الخاص على حفظ النفوس واستبقائها . وقد لا تكون الاستباحة مستندة إلى الشرع ، فيكون ذلك معصية محضة لا رخصة . فلو قيل : استباحة المحظور شرعا مع قيام السبب الحاظر ، لصح وساوى الأول .

                وقال الآمدي : الرخصة : ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرم .

                وقال القرافي : هي جواز الإقدام على الفعل مع اشتهار المانع منه شرعا .

                والمعاني متقاربة .




                الخدمات العلمية