الركن الثالث
وهو
والنظر في النية في مواضع : النية
منها : هل هي شرط في صحة هذه العبادة أم ليست بشرط ؟ وإن كانت شرطا فما الذي يجزئ من تعيينها ؟ وهل يجب تجديدها في كل يوم من أيام رمضان أم يكفي في ذلك النية الواقعة في اليوم الأول ؟ وإذا أوقعها المكلف فأي وقت إذا وقعت فيه صح الصوم ؟ وإذا لم تقع فيه بطل الصوم ؟ وهل رفض النية يوجب الفطر وإن لم يفطر ؟ وكل هذه المطالب قد اختلف العلماء فيها .
أما كون النية شرطا في صحة الصيام : فإنه قول الجمهور; وشذ زفر فقال : لا يحتاج رمضان إلى النية إلا أن يكون الذي يدركه صيام شهر رمضان مريضا أو مسافرا فيريد الصوم .
والسبب في اختلافهم : الاحتمال المتطرق إلى الصوم ؛ هل هو عبادة معقولة المعنى أو غير معقولة المعنى ؟ فمن رأى أنها غير معقولة المعنى أوجب النية ، ومن رأى أنها معقولة المعنى قال : قد حصل المعنى إذا صام وإن لم ينو ، لكن تخصيص زفر رمضان بذلك من بين أنواع الصوم فيه ضعف ، وكأنه لما رأى أن أيام رمضان لا يجوز فيها الفطر ، أي أن كل صوم يقع فيها ينقلب صوما شرعيا ، وأن هذا شيء يخص هذه الأيام .
وأما اختلافهم في تعيين النية المجزية في ذلك : فإن مالكا قال : لا بد في ذلك من تعيين صوم رمضان ، ولا يكفيه اعتقاد الصوم مطلقا ولا اعتقاد صوم معين غير صوم رمضان . وقال أبو حنيفة : إن اعتقد مطلق الصوم أجزأه ، وكذلك إن نوى فيه صيام غير رمضان أجزأه، وانقلب إلى صيام رمضان إلا أن يكون مسافرا ، فإنه إذا نوى المسافر عنده في رمضان صيام غير رمضان كان ما نوى ، لأنه لم يجب عليه صوم رمضان وجوبا معينا ، ولم يفرق صاحباه بين المسافر والحضر، وقالا : كل صوم نوي في رمضان انقلب إلى رمضان .
وسبب اختلافهم : هل الكافي في تعيين النية في هذه العبادة هو تعيين جنس العبادة أو تعيين شخصها ؟ وذلك أن كلا الأمرين موجود في الشرع ، مثال ذلك : أن النية في الوضوء يكفي منها اعتقاد رفع الحدث لأي شيء كان من العبادة التي الوضوء شرط في صحتها ، وليس يختص عبادة عبادة بوضوء وضوء . وأما الصلاة فلا بد فيها من تعيين شخص العبادة ، فلا بد من تعيين الصلاة إن عصرا فعصرا ، وإن ظهرا فظهرا ، وهذا كله على المشهور عند العلماء ، فتردد الصوم عند هؤلاء بين هذين الجنسين ، فمن ألحقه بالجنس الواحد قال : يكفي في ذلك اعتقاد الصوم فقط ، ومن ألحقه بالجنس الثاني اشترط تعيين الصوم .
[ ص: 245 ] واختلافهم أيضا في إذا هل ينقلب أو لا ينقلب ؟ سببه أيضا : أن من العبادة عندهم من ينقلب من قبل أن الوقت الذي توقع فيه مختص بالعبادة التي تنقلب إليه ، ومنها ما ليس ينقلب : أما التي لا تنقلب فأكثرها ، وأما التي تنقلب باتفاق فالحج . وذلك أنهم قالوا إذا ابتدأ الحج تطوعا من وجب عليه الحج انقلب التطوع إلى فرض ، ولم يقولوا ذلك في الصلاة ولا في غيرها . فمن شبه الصوم بالحج قال ينقلب ومن شبهه بغيره من العبادات قال لا ينقلب . نوى في أيام رمضان صوما آخر
وأما اختلافهم في : فإن وقت النية مالكا رأى أنه لا يجزئ الصيام إلا بنية قبل الفجر ، وذلك في جميع أنواع الصوم . وقال : تجزئ النية بعد الفجر في النافلة ولا تجزئ في الفروض . وقال الشافعي أبو حنيفة : تجزئ النية بعد الفجر في الصيام المتعلق وجوبه بوقت معين مثل رمضان ونذر أيام محدودة ، وكذلك في النافلة ، ولا يجزئ في الواجب في الذمة .
والسبب في اختلافهم : تعارض الآثار في ذلك; أما الآثار المتعارضة في ذلك :
فأحدها : ما خرجه عن البخاري حفصة أنه قال - عليه الصلاة والسلام - : " " . ورواه من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له مالك موقوفا . قال أبو عمر : حديث حفصة في إسناده اضطراب .
والثاني : ما رواه مسلم عن عائشة قالت : " عائشة هل عندكم شيء ؟ قالت : قلت يا رسول الله ما عندنا شيء ، قال فإني صائم " . قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم : يا
ولحديث معاوية أنه قال على المنبر : يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " " . اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب علينا صيامه وأنا صائم فمن شاء منكم فليصم ومن شاء فليفطر
فمن ذهب مذهب الترجيح أخذ بحديث حفصة ، ومن ذهب مذهب الجمع فرق بين النفل والفرض - أعني : حمل حديث حفصة على الفرض ، وحديث عائشة ومعاوية على النفل - وإنما فرق أبو حنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة ، لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين ، الذي في الذمة ليس له وقت مخصوص ، فأوجب أن التعيين بالنية .
وجمهور الفقهاء على أنه ليست الطهارة من الجنابة شرطا في صحة الصوم ؛ لما ثبت من حديث عائشة زوجي النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما قالتا : " وأم سلمة " ومن الحجة لهما الإجماع على أن الاحتلام بالنهار لا يفسد الصوم . وروي عن كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا من جماع غير احتلام في رمضان ثم يصوم إبراهيم النخعي وعروة بن الزبير أنه إن تعمد ذلك أفسد صومه . وطاوس
وسبب اختلافهم : ما روي عن أنه كان يقول : " من أصبح جنبا في رمضان أفطر " . وروي عنه أنه قال : ما أنا قلته ، أبي هريرة محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله ورب الكعبة . وذهب من أصحاب ابن الماجشون مالك أن الحائض إذا طهرت قبل الفجر فأخرت الغسل أن يومها يوم فطر، وأقاويل هؤلاء شاذة ومردودة بالسنن المشهورة الثابتة .