[ القول في تفسير ما يجرح به الشهود ] .
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولا أقبل الجرح من الجارح إلا بتفسير ما يجرح به للاختلاف في الأهواء وتكفير بعضهم بعضا ويجرحون بالتأويل " .
قال الماوردي : وهو كذلك في ، لم تقبل دعواه على الإطلاق حتى يفسرها بما يكون جرحا يفسق به ، لاختلاف الناس في الجرح والتعديل . كما لو قال : هذا وارث ، لم يقبل منه حتى يذكر ما صار به وارثا لاختلاف الناس في المواريث . دعوى المشهود عليه جرح الشهود
فإذا . قال : هذا الشاهد فاسق أو غير مرضي ، أو ليس بمقبول الشهادة
قيل له : فسر ما صار به فاسقا غير مقبول الشهادة .
فإن فسرها بما لا يكون فسقا ، ردت دعواه وحكم بالشهادة عليه ، وإن فسرها بما يكون فسقا ، كلف بإقامة البينة بالفسق الذي ادعاه ، ليكون الفسق مفسرا في الدعوى والشهادة فإن فسرها المدعي بنوع من الفسق وفسرها المشهود بنوع آخر ، حكم بالفسق مع اختلاف سببه في الدعوى والشهادة ؟ لأن المقصود ثبوت الفسق ، فلم يؤثر فيه اختلاف أنواعه إذا فسق بكل واحد منها ، وقد يعلم الشهود ما لا يعلمه المدعي .
فأما الشهادة بالتعديل فلا تحتاج إلى التفسير ، وإن كان التفسيق محتاجا إلى تفسير ، لما قدمناه على الصحيح من المذهب ، للفرق بينهما من وجهين :
أحدهما : أن العدالة موافقة أصل فاستغنى عن تفسير ، والتفسيق مخالف للظاهر فاحتاج إلى تفسير .
[ ص: 243 ] والثاني : أن العدالة أصل ، والفسق حادث ، والحادث يحتاج إلى تفسير ، والمعدوم لا يحتاج إلى تفسير ، كمن قال : هذا الماء طاهر ، لم يستفسر عن طهارته ، ولو قال : هو نجس ، استفسر عن نجاسته والله أعلم .
مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو لم أر بأسا أن يعرض له بأن يقول لعله لم يسرق " . ادعى على رجل من أهل الجهالة بحد
قال الماوردي : الحقوق ضربان :
أحدهما : ما كان من حقوق الآدميين ، فلا يجوز للحاكم أن يعرض للمقر بالإنكار ، ولا يعرض للشهود بالتوقف ، سواء كان الحق في مال أو حد ، لأن حقوق الآدميين موضوعة على الحفظ والاحتياط ، ولأن المقر بها لو أنكرها لم يقبل إنكاره .
والضرب الثاني : ما كان من حقوق الله تعالى المحضة ، كالحد في الزنا والقطع في السرقة ، والجلد في الخمر ، فلا يخلو حال المدعى عليه من أمرين :
أحدهما : أن يكون عالما بوجوب الحد عليه إن أقر ، فيمسك الحاكم عن التعريض له بالإنكار ، حتى يبتدئ فيقر أو ينكر ، لأن التعريض لا يزيده إلا علما بوجوب الحد إن أقر وسقوطه إن أنكر .
والثاني : أن يكون من أهل الجهالة بوجوب الحد ، إما لأنه أسلم قريبا ، أو لأنه من أهل بادية نائية من جفاة الأعراب ، فيجوز للحاكم أن يعرض للمدعى عليه بالإنكار من غير تصريح ، فإن كان في الزنا قال له : لعلك قبلت ، أو لمست كما عرض النبي صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا فقال : " " . لعلك قبلت لعلك لمست
وإن كان في حد السرقة قال : لعلك سرقت من غير حرز .
فإن عرض له بأن قال : لعلك لم تسرق ، وكانت الدعوى من صاحب المال ، لم يجز أن يعرض له بهذا ، لأن في تعريضه به إسقاطا لحقه ، وإن كانت من غير صاحب المال ، جاز أن يعرض له به .
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق ، فقال له : " أسرقت أم لا " وإن كان في شرب الخمر قال : لعلك لم تشرب ، أو قال : لعلك لم تعلم أنه مسكر أو لعلك أكرهت على شرب المسكر .
وإنما جاز التعريض للمقر بما يتنبه به على الإنكار ، لأنه مندوب إلى الستر على نفسه فيما ارتكبه ، وأن يستغفر ربه لقوله صلى الله عليه وسلم : " " . من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه حد الله
[ ص: 244 ] ولا يجوز للحاكم أن يصرح له بالإنكار فيقول له : قل ما زنيت ، ولا سرقت ، ولا شربت ، أو يقول له : أنكر ولا تقر ، لحظر التصريح في إسقاط الحدود ، لأنه قد يلقنه الكذب ، ويأمره به .
فأما ، فقد اختلف أصحابنا في جوازه على وجهين : - تعريض الحاكم للشهود بالتوقف عن الشهادة
أحدهما : لا يجوز لأنه يقدح في شهادتهم .
والوجه الثاني : يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " " . هلا سترته بثوبك يا هزال
وقال عمر لزياد حين حضر لشهادته على المغيرة بالزنا : أيهما يا سلح العقاب ، أرجو أن لا يفضح الله على يدك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنبه على تعريضه ، فلم يصرح في شهادته بدخول الذكر في الفرج ، فلم تكمل به الشهادة في الزنا .
وهذا التعريض بالإنكار جائز مباح ، وليس بواجب ولا استحباب ، وهو حسب رأي الحاكم واجتهاده .
وقد قال الشافعي رضي الله عنه : لم أر بأسا به ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لماعز ولم يعرض للغامدية ، وقال : " " ، فعرض في الأقل ولم يعرض في الأكثر . اغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها
فإن نبه بالتعريض على الإنكار فأنكر ، فإن لم يتقدمه إقرار ، قبل إنكاره في جميع الحدود ولم يستحلف على الإنكار ، فإن تقدم منه الإقرار قبل الإنكار سقط حد الزنا ، ولم يسقط عنه غرم المال المسروق ، وفي سقوط قطع اليد وحد الخمر قولان ، يسقط في أصحهما ، ولا يسقط في الآخر .