فصل : فأما ، فقد اختلف الناس فيها ، فرخصها قوم وأباحوها ، لرواية القراءة بالألحان الموضوعة للأغاني أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ليس منا من لم يتغن بالقرآن " .
[ ص: 198 ] وشددها آخرون وحظروها ، لخروجها عن الزجر والعظة إلى اللهو والطرب .
ولأنها خارجة عن عرف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم ، إلى ما استحدث من بعده .
وقد قال صلى الله عليه وسلم : . كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
وأما الشافعي ، فإنه عدل عن هذين الإطلاقين في الحظر والإباحة باعتبار الألحان ، فإذا أخرجت ألفاظ القرآن عن صيغته ، بإدخال حركات فيه وإخراج حركات منه ، يقصد بها وزن الكلام وانتظام اللحن ، أو مد مقصور ، أو قصر ممدود ، أو مطط حتى خفي اللفظ ، والتبس المعنى ، فهذا محظور ، يفسق به القارئ ، ويأثم به المستمع ، لأنه قد عدل به عن نهجه إلى اعوجاجه ، والله تعالى يقول : قرءانا عربيا غير ذي عوج [ الزمر : 28 ] .
وإن لم يخرجه اللحن عن صيغة لفظه وقراءته على ترتيله كان مباحا ، لأنه قد زاد بألحانه في تحسينه وميل النفس إلى سماعه .
أما قوله : ليس منا من لم يتغن بالقرآن " ففيه تأويلان :
أحدهما : معناه من لم يستغن بالقرآن ، وهذا قول الأصمعي ، ومال إليه الشافعي .
وحكى زهير بن أبي هند ، عن إياس بن معاوية المزني ، أنه نظر إلى رجل يتغنى بالقرآن ، فقال : يا هذا إن كنت لا بد متغنيا فبالشعر ، فقال الرجل : أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ، فقال له ليس منا من لم يتغن بالقرآن إياس : إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يستغن بالقرآن ، ألم تسمع حديثه الآخر " من حفظ القرآن فظن أن أحدا أغنى منه . أما سمعت قول الشاعر :
غنينا بذكر الله عما نراه في يد المتمولينا
والتأويل الثاني : أنه محمول على غناء الصوت في تحسينه وتحزينه دون ألحانه .وهذا قول أبي عبيد ، وأنكر على من حمله على الاستغناء ، وقال : لو أراد هذا لقال : " من لم يتغان بالقرآن " .