فصل : فإن قيل : فكيف يستحلف المدعى عليه مع إمكان البينة ، فإنما يستحلف مع عدمها ؟
قيل : للمدعي عند المطالبة باستحلاف المدعى عليه ثلاث أحوال :
[ ص: 135 ] أحدها : أن . يقول لي بينة لا أقدر عليها لغيبة أو عذر ، فيستحلف خصمه ، ثم تحضر بينته ، فتسمع
والحال الثانية : أن يقول : لي بينة حاضرة ، وأنا أطلب إحلاف خصمي ، فلا يمنع من استحلافه ، ولا من إقامة البينة بعد يمينه ، لأن البينة حجة لا يجبر على إقامتها ، ويجوز أن يعدل عنها إلى طلب اليمين ، إما لينزجر بها ، فيقر ، وإما ليحتقب بها وزرا . فإذا لم يزجر بها عن الإنكار جاز أن يقيم الحجة ببينته ، ويظهر بها صدق الدعوى ، وكذب الإنكار ، وحنث اليمين .
والحال الثالثة : أن يقول : ليس لي بينة ، وأنا أطلب اليمين ، لعدم البينة ، فإذا أقامها بعد إحلاف المدعى عليه ، فقد اختلف في قبولها .
وقد حكي عن محمد بن الحسن ، وبعض أصحاب الشافعي أنها لا تسمع ، لأن في إنكار البينة حرجا لمن يشهد بها ، ولا تسمع له بينة قد جحدها .
وقال أبو يوسف : تسمع بينته ، وهو الظاهر من مذهب الشافعي ، وقول جمهور أصحابه ، لأنه قد تنسى البينة ثم يذكرها ، وقد تكون له بينة ، ولا يعلم بها ، ثم يعرفها ، فلم يكن في قوله حرج ، ولا تكذيب .
وقال بعض أصحاب الشافعي مذهبا ثالثا : إن كان هو الذي استوثق بإشهاد البينة ، لم تقبل منه إذا أنكرها .
وإن كان قد استوثق بها وليه في صغره ، أو وكيله في كبره ، قبلت منه إذا أنكرها ، لأنه لا يجهل فعل نفسه ، وقد يجهل فعل غيره .
وهذا الفرق لا وجه له ، لأنه إن لم يجهل فعل نفسه في وقته ، فقد ينساه بعد وقته ، وسواء كانت هذه البينة بعد يمين المنكر بشاهدين ، أو شاهد وامرأتين ، أو شاهد ويمينه ، إذا كان مما يحكم فيه بالشاهد واليمين .