مسألة : قال الشافعي رضي الله عنه : " ولو أتى قوم بشاهد أن لأبيهم على فلان حقا أو فلانا قد أوصى لهم فمن حلف منهم مع شاهده استحق ورثه أو وصيته دون من لم يحلف " .
قال الماوردي : وصورتها في ، فلهم ثلاثة أحوال : ورثة ميت ادعوا أن لميتهم دينا على رجل منكر ، أو ادعوا وصية وصى بها لميتهم ، وأقاموا على الدين والوصية شاهدا واحدا
[ ص: 79 ] أحدها : أن يحلفوا جميعا مع شاهد منهم ، فيستحقوا بأيمانهم مع شاهد منهم ما ادعوه من الدين ، والوصية لأنهما من حقوق الأموال المحكوم فيها بالشاهد واليمين ، ويكون الدين مقسوما بينهم على قدر مواريثهم . فأما الوصية فلا يخلو حالهم فيها من أحد أمرين :
أحدهما : أن يدعوا أن ميتهم قبلها قبل موته ، فتكون الوصية بينهم على قدر مواريثهم ، لأن ميتهم قد ملكها بقبوله ، فصارت كسائر أمواله الموروثة عنه .
والثاني : أن يذكروا أنه لم يقبلها ، وأنهم القابلون لها بعد موته ، ففي كيفية استحقاقهم لها بعد أيمانهم قولان :
أحدهما : تكون بينهم بالسوية ، إذا قيل : إن الوصية تملك بالقبول لأن من حكم الوصية أن يتساوى فيها أهل الوصايا ، فيكون للوارثين عن ميتهم حقه من القبول ، فيصيروا هم المالكين لها بالقبول من غير أن تدخل في ملك ميتهم . فعلى هذا لو كان على أبيهم دين لم يقض منها .
والقول الثاني : تكون بينهم على قدر مواريثهم ، إذا قيل : إن القبول يبنى على ملك سابق ، من حين مات الموصي فيكون قبولهم موجبا لدخولها في ملك ميتهم ، ثم ملكوها عنه بالميراث فصاروا فيها على قدر مواريثهم ، فعلى هذا لو كان على أبيهم دين قضي منها .
فصل : والحال الثانية : أن يمتنعوا جميعا من اليمين مع شاهد منهم ، فلا حق لهم فيما شهد به شاهدهم من الدين والوصية .
فإن قيل : فهلا استحقوا النصف ، لأن لهم نصف البينة ، قيل : البينة لا تتبعض في الاستحقاق لأن كل جزء من الحق لا يستحق إلا بكمال البينة ، فلم يجز أن يستحق بعضه ببعض البينة ، فإن فهو على ضربين : مات الورثة وأراد ورثتهم أن يحلفوا مع شاهدهم
أحدهما : أن يكون امتناعهم من الأيمان ، لنكولهم عنها ، فلا يجوز لورثتهم أن يحلفوا بعد موتهم ، لأنهم قد أسقطوا حقوقهم من الأيمان بنكولهم .
والضرب الثاني : أن يكونوا قد توقفوا عن الأيمان ليحلفوا بها من غير نكول عنها ، فيجوز لورثتهم أن يحلفوا بعد موتهم ، ويستحقوا ما كان لهم لأن حقوقهم من الأيمان لم تسقط بالتوقف ، إنما تسقط بالنكول ، وليس التوقف نكولا .
فصل : والحال الثالثة : أن يحلف بعض الورثة مع الشاهد ، وينكل بعضهم ، فيحكم لمن حلف بحقه من الدين والوصية ، ولا شيء لمن نكل عن اليمين لأمرين :
[ ص: 80 ] أحدهما : أن الشاهد الواحد كاليد عند التنازع ، ولو حلف بعض ذوي الأيدي حكم له بيمينه ، دون من نكل كذلك هنا .
والثاني : أن الشاهد الواحد حجة ، قد قبلها الحالف ، فثبت حقه بها ، وردها الناكل فسقط حقه منها ، وصار كأخوين ادعيا حقا من ميراث على منكر فنكل عن اليمين ، فردت على الأخوين ، فحلف أحدهما ، ونكل الآخر ، قضى للحالف بحقه دون الناكل .
فإن قيل : إذا كان الشاهد واليمين بينة في ثبوت الحق كالشاهدين ، ولو أقام أحد الورثة البينة بشاهدين حكم بالحق لمن أقام البينة ولمن لم يقمها ، فهلا كان في الشاهد واليمين كذلك .
قيل : لأن الشاهدين بينة كاملة في ثبوت الحق ، فثبت لجميعهم ، والشاهد الواحد تكمل به البينة مع أيمانهم ، فكملت بينة من حلف ، ونقصت به بينة من نكل ، فلذلك لم يستحق الناكل واستحق الحالف .
فإن قيل : هذا ميراث يجب أن يشترك فيه جميع الورثة ، كأخوين ادعيا دارا ميراثا ، فصدق عليه أحدهما ، وأكذب الآخر ، كان النصف الذي استحقه المصدق بين الأخوين ، لكونه ميراثا يوجب تساويهما فيه ، فهلا كان ما استحقه الحالف مع شاهده مقسوما بين جميعهم ، لكونه ميراثا .
قيل : الفرق بينهما أن المجحود ، كالمغصوب ، وغصب بعض التركة يوجب تساوي الورثة ، في غير المغصوب ، وليس كذلك في النكول مع الشاهد ، لأنه قادر على الوصول إلى حقه بيمينه ، فصار بنكوله ، كالمسلم والتارك له على خصمه ، وجرى ذلك مجرى أخوين أقر رجل لأبيهما بدين ، فقبله أحدهما ولم يقبله الآخر ، كان حق القابل خالصا له ، لا يشاركه فيه غير القابل ، لأنه تارك لحقه منه ، كذلك حكم الناكل مع الحالف .