الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : فأما العدد الذي تنعقد به الجمعة فأربعون رجلا مع الإمام على الأوصاف المتقدمة هذا مذهب الشافعي ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأحمد وإسحاق وقال الأوزاعي والزهري ، وربيعة ، ومحمد بن الحسن : تنعقد باثني عشر رجلا ، لأن العدد الذي بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انفضاض الناس عنه اثنا عشر رجلا ، فصلى بهم الجمعة ، على ما رواه جابر وفي ذلك نزل قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما وقال أبو حنيفة رحمه الله : تنعقد بأربعة أو ثلاثة . وبه قال الليث بن سعد ، والمزني ، لأنها جماعة واجبة ، فافتقرت إلى أقل الجمع ، وهو ثلاثة ، وإمام يجمع بهم ، فصاروا أربعة ، وقال سفيان الثوري وأبو يوسف : تنعقد بثلاثة : إمام واثنان ، لأنهم أقل الجمع مع الإمام ، وقال الحسن بن صالح وأبو ثور : تنعقد باثنين إمام لآخر ، كما تنعقد بهما صلاة الجماعة . وقال مالك : لا حد في عددهم معتبر ، وإنما المعتبر بأوطانهم ، فإذا كانت قرية مجتمعة المنازل ، لها أزقة ، وفيها أسواق ومسجد ، فعليهم الجمعة ، قلوا أو كثروا ، لأنه لما لم يصح فعلها في غير الأوطان وإن كان العدد موجودا علم أن الاعتبار بالأوطان . فهذه جملة مذاهب من خالفنا في عددهم ، وتعليل مذهب كل واحد منهم ، ثم استدلوا جميعا على إبطال مذهبنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تجب الجمعة في جماعة وهذا الذي قالوه غير صحيح ، والدلالة على جماعتهم : ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : كنت قائد أبي بعد ذهاب بصره ، فكان إذا سمع النداء يوم الجمعة قال : رحم الله أبا أمامة أسعد بن زرارة فقلت : يا أبت إنك تترحم على أبي أمامة أسعد بن زرارة إذا سمعت النداء فقال : نعم ، إنه أول من صلى بنا الجمعة في حرة بني بياضة ، في نقيع يقال له : نقيع الخضمات ، فقلت : كم كنتم يومئذ ؟ قال : كنا أربعين رجلا . وموضع الدلالة من هذا : هو أن مصعب بن عمير قد كان ورد المدينة قبل ذلك بمدة طويلة ، وكان في المسلمين قلة ، فلما استكملوا أربعين أمر أسعد بن زرارة فصلى بهم الجمعة على ما بين له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلم أن تأخيرها إنما كان انتظارا لاستكمال هذا العدد ، وأنه شرط في انعقادها ، لأن فرضها قد كان نزل بمكة . فإن قيل : هذا الحديث مضطرب ، لا يصح لكم الاحتجاج به ، لأنه يروى [ ص: 410 ] تارة أن مصعبا صلى بالناس ، ويروى تارة أخرى أن أسعد بن زرارة صلى بهم ، وروي تارة بالمدينة ، وتارة ببني بياضة ، فلأجل اضطرابه واختلاف روايته لم يصح لكم الاحتجاج به ، قيل : الحديث صحيح لا اضطراب فيه ، لأن مصعبا كان الآمر بها ، وأسعد الفاعل لها ، فمن نسبها إلى مصعب فلأجل أمره ، ومن نسبها إلى أسعد فلأجل فعله ، ومن روى ببني بياضة فعين موضع فعلها ، ومن روى بالمدينة فنقل أشهر مواضعها ، لأن بني بياضة من سواد المدينة .

                                                                                                                                            وأما المزني فإنه غلط على الشافعي ، وغلط أصحابنا على المزني ، فأما غلط المزني على الشافعي : فهو قوله : واحتج بما لا يثبته أصحاب الحديث ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة جمع بأربعين ، وهذا لعمري حديث ضعيف ، ذكره الشافعي في كتاب الأم غير أنه لم يحتج به ، وإنما احتج بحديث محمد بن إسحاق هذا المقدم .

                                                                                                                                            وأما غلط أصحابنا على المزني فهو أنهم ظنوا أنه أراد بالحديث حديث محمد بن إسحاق ، لأن محمدا كان ضعيفا ، طعن فيه مالك وغيره فقالوا : الحديث صحيح ، وإن كان محمد بن إسحاق ضعيفا ، لأن أبا داود قد نقله وأحمد بن حنبل قد أتقنه وقد روي هذا الحديث من جهة عبد الرزاق .

                                                                                                                                            فلم يكن ضعف محمد بن إسحاق قادحا في صحته ، وهذا غلط منهم على المزني ، حيث ظنوا أنه أشار بضعيف الحديث إلى حديث محمد بن إسحاق ، وغلط المزني حيث ظن أن الشافعي استدل بذلك الحديث الضعيف .

                                                                                                                                            ثم من الدليل على صحة ما ذهبنا إليه : ما روى سليمان بن طريف عن مكحول عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا اجتمع أربعون رجلا فعليهم الجمعة وسيكون بعدي أمراء يتواضعون الحديث ولأن فرض الجمعة قد كان في أول الإسلام ظهرا أربع ركعات ، ثم نقل الفرض إلى ركعتين على شرائط وأوصاف من غير أن ينسخ الظهر ، وإذا كان الأصل شرعا ثابتا لم يجز الانتقال عنه إلا بدلالة التوقيف أو الإجماع ، ولا توقيف معهم فيما دون الأربعين ولا إجماع ، فوجب أن يكون فرضه الظهر ، ولأن العدد شرط معتبر في الجمعة إجماعا ؛ لأنهم لا يختلفون أنها لا تصح بواحد ، وإذا كان العدد شرطا معتبرا ، وليس لبعض الأعداد مزية على بعض ، كان ما اعتبرنا من عدد الأربعين أولى من وجهين : أحدهما : أنه [ ص: 411 ] مجمع عليه في تعليق الحكم ، وما دونه من الأعداد مختلف فيه . والثاني : أنه عدد قد وجد في الشرع جمعة انعقدت به ، وهو حديث أسعد ولم يوجد في الشرع جمعة انعقدت بأربعة ، فكان العدد الذي طابق الشرع أولى ، وبهذا يبطل ما اعتلوا به لمذهبهم .

                                                                                                                                            ثم من الدليل على فساد ما اعتبره من العدد : أن يقال : إنه عدد لا تبنى لهم الأوطان غالبا ، فوجب أن لا تنعقد بهم الجمعة كالواحد والاثنين .

                                                                                                                                            فأما ما اعتبره مالك في الأوطان فغير صحيح ؛ لأن الأوطان والعدد شرطان معتبران ، فلم يجز إسقاط أحدهما بالآخر ، على أن اعتبار العدد أولى ، لأنه معنى يختص بمن وجب الفرض عليه .

                                                                                                                                            فأما ما استدلوا به من قوله صلى الله عليه وسلم : تجب الجمعة في جماعة فلا حجة فيه ، لأننا نوجبها في جماعة ، ولكن اختلفنا في عددها ، والخبر لا يقضي على أحد الأعداد دون غيره ، فلم يصح لهم الاحتجاج به .

                                                                                                                                            وأما ما ذكروه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى باثني عشر رجلا حين انفض عنه أصحابه فلا حجة فيه ، لأن انفضاضهم كان بعد الإحرام .

                                                                                                                                            وقد كانت انعقدت بأربعين ، واستدامة العدد مسألة أخرى نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية