فصل : فأما فأربعون رجلا مع الإمام على الأوصاف المتقدمة هذا مذهب العدد الذي تنعقد به الجمعة الشافعي ، وبه قال عمر بن عبد العزيز ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وأحمد وإسحاق وقال الأوزاعي والزهري ، وربيعة ، ومحمد بن الحسن : تنعقد باثني عشر رجلا ، لأن العدد الذي بقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد انفضاض الناس عنه اثنا عشر رجلا ، فصلى بهم الجمعة ، على ما رواه جابر وفي ذلك نزل قوله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما وقال أبو حنيفة رحمه الله : تنعقد بأربعة أو ثلاثة . وبه قال الليث بن سعد ، والمزني ، لأنها جماعة واجبة ، فافتقرت إلى أقل الجمع ، وهو ثلاثة ، وإمام يجمع بهم ، فصاروا أربعة ، وقال سفيان الثوري وأبو يوسف : تنعقد بثلاثة : إمام واثنان ، لأنهم أقل الجمع مع الإمام ، وقال الحسن بن صالح وأبو ثور : تنعقد باثنين إمام لآخر ، كما تنعقد بهما صلاة الجماعة . وقال مالك : لا حد في عددهم معتبر ، وإنما المعتبر بأوطانهم ، فإذا كانت قرية مجتمعة المنازل ، لها أزقة ، وفيها أسواق ومسجد ، فعليهم الجمعة ، قلوا أو كثروا ، لأنه لما لم يصح فعلها في غير الأوطان وإن كان العدد موجودا علم أن الاعتبار بالأوطان . فهذه جملة مذاهب من خالفنا في عددهم ، وتعليل مذهب كل واحد منهم ، ثم استدلوا جميعا على إبطال مذهبنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : تجب الجمعة في جماعة وهذا الذي قالوه غير صحيح ، والدلالة على جماعتهم : ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال : كنت قائد أبي بعد ذهاب بصره ، فكان إذا سمع النداء يوم الجمعة قال : رحم الله أبا أمامة أسعد بن زرارة فقلت : يا أبت إنك تترحم على أبي أمامة أسعد بن زرارة إذا سمعت النداء فقال : نعم ، إنه أول من صلى بنا الجمعة في حرة بني بياضة ، في نقيع يقال له : نقيع الخضمات ، فقلت : كم كنتم يومئذ ؟ قال : كنا أربعين رجلا . وموضع الدلالة من هذا : هو أن مصعب بن عمير قد كان ورد المدينة قبل ذلك بمدة طويلة ، وكان في المسلمين قلة ، فلما استكملوا أربعين أمر أسعد بن زرارة فصلى بهم الجمعة على ما بين له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعلم أن تأخيرها إنما كان انتظارا لاستكمال هذا العدد ، وأنه شرط في انعقادها ، لأن فرضها قد كان نزل بمكة . فإن قيل : هذا الحديث مضطرب ، لا يصح لكم الاحتجاج به ، لأنه يروى [ ص: 410 ] تارة أن مصعبا صلى بالناس ، ويروى تارة أخرى أن أسعد بن زرارة صلى بهم ، وروي تارة بالمدينة ، وتارة ببني بياضة ، فلأجل اضطرابه واختلاف روايته لم يصح لكم الاحتجاج به ، قيل : الحديث صحيح لا اضطراب فيه ، لأن مصعبا كان الآمر بها ، وأسعد الفاعل لها ، فمن نسبها إلى مصعب فلأجل أمره ، ومن نسبها إلى أسعد فلأجل فعله ، ومن روى ببني بياضة فعين موضع فعلها ، ومن روى بالمدينة فنقل أشهر مواضعها ، لأن بني بياضة من سواد المدينة .
وأما المزني فإنه غلط على الشافعي ، وغلط أصحابنا على المزني ، فأما غلط المزني على الشافعي : فهو قوله : واحتج بما لا يثبته أصحاب الحديث ، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة جمع بأربعين ، وهذا لعمري حديث ضعيف ، ذكره الشافعي في كتاب الأم غير أنه لم يحتج به ، وإنما احتج بحديث محمد بن إسحاق هذا المقدم .
وأما غلط أصحابنا على المزني فهو أنهم ظنوا أنه أراد بالحديث حديث محمد بن إسحاق ، لأن محمدا كان ضعيفا ، طعن فيه مالك وغيره فقالوا : الحديث صحيح ، وإن كان محمد بن إسحاق ضعيفا ، لأن أبا داود قد نقله وأحمد بن حنبل قد أتقنه وقد روي هذا الحديث من جهة عبد الرزاق .
فلم يكن ضعف محمد بن إسحاق قادحا في صحته ، وهذا غلط منهم على المزني ، حيث ظنوا أنه أشار بضعيف الحديث إلى حديث محمد بن إسحاق ، وغلط المزني حيث ظن أن الشافعي استدل بذلك الحديث الضعيف .
ثم من الدليل على صحة ما ذهبنا إليه : ما روى سليمان بن طريف عن مكحول عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا اجتمع أربعون رجلا فعليهم الجمعة وسيكون بعدي أمراء يتواضعون الحديث ولأن فرض الجمعة قد كان في أول الإسلام ظهرا أربع ركعات ، ثم نقل الفرض إلى ركعتين على شرائط وأوصاف من غير أن ينسخ الظهر ، وإذا كان الأصل شرعا ثابتا لم يجز الانتقال عنه إلا بدلالة التوقيف أو الإجماع ، ولا توقيف معهم فيما دون الأربعين ولا إجماع ، فوجب أن يكون فرضه الظهر ، ولأن العدد شرط معتبر في الجمعة إجماعا ؛ لأنهم لا يختلفون أنها لا تصح بواحد ، وإذا كان العدد شرطا معتبرا ، وليس لبعض الأعداد مزية على بعض ، كان ما اعتبرنا من عدد الأربعين أولى من وجهين : أحدهما : أنه [ ص: 411 ] مجمع عليه في تعليق الحكم ، وما دونه من الأعداد مختلف فيه . والثاني : أنه عدد قد وجد في الشرع جمعة انعقدت به ، وهو حديث أسعد ولم يوجد في الشرع جمعة انعقدت بأربعة ، فكان العدد الذي طابق الشرع أولى ، وبهذا يبطل ما اعتلوا به لمذهبهم .
ثم من الدليل على فساد ما اعتبره من العدد : أن يقال : إنه عدد لا تبنى لهم الأوطان غالبا ، فوجب أن لا تنعقد بهم الجمعة كالواحد والاثنين .
فأما ما اعتبره مالك في الأوطان فغير صحيح ؛ لأن الأوطان والعدد شرطان معتبران ، فلم يجز إسقاط أحدهما بالآخر ، على أن اعتبار العدد أولى ، لأنه معنى يختص بمن وجب الفرض عليه .
فأما ما استدلوا به من قوله صلى الله عليه وسلم : تجب الجمعة في جماعة فلا حجة فيه ، لأننا نوجبها في جماعة ، ولكن اختلفنا في عددها ، والخبر لا يقضي على أحد الأعداد دون غيره ، فلم يصح لهم الاحتجاج به .
وأما ما ذكروه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى باثني عشر رجلا حين انفض عنه أصحابه فلا حجة فيه ، لأن انفضاضهم كان بعد الإحرام .
وقد كانت انعقدت بأربعين ، واستدامة العدد مسألة أخرى نذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى .