مسألة : قال الشافعي ، رحمه الله تعالى : " وتجب وإن كثر أهله حتى لا يسمع أكثرهم النداء لأن الجمعة تجب على أهل المصر الجامع وعلى كل من كان خارجا من المصر إذا سمع النداء وكان المنادي صيتا وكان ليس بأصم مستمعا والأصوات هادئة والريح ساكنة ، ولو قلنا حتى يسمع جميعهم ما كان على الأصم جمعة ولكن إذا كان لهم السبيل إلى علم النداء بمن يسمعه منهم فعليهم الجمعة لقول الله تبارك وتعالى الجمعة على أهل المصر إذا نودي للصلاة الآية " .
قال الماوردي : وهذا كما قال .
أما أهل البلد فعليهم الجمعة ولا اعتبار بسماعهم النداء : لأن كل موضع من البلد موضع للنداء ، ومحل لإقامة الجمعة فيه ، وليس لها اختصاص بموضع دون موضع : فلأجل ذلك سقط اعتبار النداء ، ووجب على جميعهم حضور الجمعة وإن كثروا .
وأما فعلى ثلاثة أضرب : [ الأول ] ضرب تلزمهم الجمعة بأنفسهم فحسب ، [ الثاني ] وضرب لا تلزمهم بأنفسهم وتلزمهم بغيرهم . من كان خارج المصر
[ الثالث ] وضرب لا تلزمهم بأنفسهم ولا بغيرهم .
فأما الضرب الذين تلزمهم بأنفسهم : فهم أهل قرية مستوطنون ، فيها أربعون رجلا أحرارا بالغين تنعقد بهم الجمعة ، فهؤلاء عليهم إقامتها ، وسواء قربوا من المصر أو بعدوا سمعوا النداء أو لم يسمعوا : لأن شرائط الجمعة قد كملت فيهم ، فإن تركوا إقامتها في موضعهم ، وقصدوا البلد فصلوا الجمعة مع أهله فقد أساءوا بترك إقامتها في موضعهم وأجزأهم ذلك : لأنهم قد أتوا بالصلاة الواجبة عليهم .
وأما الذين لا تلزمهم الجمعة بأنفسهم ولا بغيرهم : فهو أن يكونوا أقل من أربعين ، على مسافة لا يبلغهم سماع النداء ، فلا تلزمهم إقامتها بأنفسهم لنقصهم عن الأربعين ، ولا بغيرهم ، لأن نداء الجمعة لا يبلغهم .
وأما الذين لا تلزمهم إقامتها بأنفسهم وتلزمهم بغيرهم : فهو أن يكونوا أقل من أربعين ، على مسافة يسمعون نداء الجمعة من المصر ، فهؤلاء تجب عليهم الجمعة ، ويلزمهم إتيانها في المصر ، واعتبار سماع النداء بأن تكون الريح ساكنة ، والأصوات هادئة ، ويقف المؤذن في طرف البلد أو على سورة من جانبه ، ويكون صيتا ولا يكون المستمع أصم ، فإذا سمعوا [ ص: 405 ] النداء على هذا الوصف فقد لزمهم حضور الجمعة . هذا مذهبنا وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمرو بن العاص ، ومن التابعين سعيد بن المسيب ، ومن الفقهاء أحمد بن حنبل .
وقال الأوزاعي : إن كانوا إذا صلوا الجمعة في المصر يمكنهم أن يأووا بالليل في منازلهم لزمتهم الجمعة ، وإن لم يمكنهم أن لا يأووا ليلا في منازلهم فلا جمعة عليهم . وبه قال من الصحابة ابن عمر وأبو هريرة وأنس بن مالك .
وقال الزهري : إن كانوا على ستة أميال لزمتهم الجمعة ، وإن كانوا على أكثر لم تلزمهم .
وقال ربيعة : إن كانوا على أربعة أميال لزمتهم الجمعة ، وإن كانوا على أكثر لم تلزمهم ، وقال مالك والليث بن سعد : إن كانوا على ثلاثة أميال لزمتهم الجمعة ، وإن كانوا على أكثر لم تلزمهم . وقال أبو حنيفة : لا جمعة على من كان خارج المصر بحال قرب أو بعد تعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم : لا جمعة ولا تشريق إلا على أهل مصر جامع فنفى وجوب الجمعة عمن كان في غير مصر جامع ، قال : ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم الجمعة بالمدينة فلا يدعو أهل العوالي والسواد ، ولو وجبت عليهم لوجب عليه أن يأمرهم بها ، قال : ولأن كل موضع لا تجب فيه صلاة الجمعة لا تجب على أهله الجمعة ، قياسا على من لم يسمع النداء .
قال : ولأنه لما لم يكن سماع النداء في البلد شرطا في وجوب الجمعة لأنها تجب عليهم وإن لم يسمعوه ، وجب أن يبطل الاعتبار به فيمن خارج البلد ، فلا تجب عليهم الجمعة وإن سمعوه ، قال : ولأن ما قرب من البلد في حكم ما بعد عنه ، ألا ترى أنه لو نوى السفر ، وفارق بنيان البلد ، جاز له القصر والمسح ثلاثا كما لو بعد عنه ، فلما لم تجب الجمعة على من بعد لم تجب على من قرب .
والدلالة على صحة قولنا وفساد قوله : قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع [ الجمعة : 9 ] . فكان عموم الظاهر يقتضي إيجاب السعي إليها عند سماع النداء : لأنه جعل النداء علما لها ، ودل على ذلك عموم قوله صلى الله عليه وسلم : . فاستثنى بعد عموم الإيجاب من لا تلزمه الجمعة من المرأة والصبي ، والمملوك ، فدخل من كان خارج المصر في عموم الإيجاب ، ولم يدخل خصوص الاستثناء ، والاعتماد على هذه الدلالة جيد ، ويدل على ذلك أيضا ما روى تجب الجمعة على كل مسلم إلا امرأة أو صبيا أو مملوكا قبيصة عن سفيان عن محمد بن سعيد الطائفي [ ص: 406 ] عن أبي سلمة بن نبيه عن عبد الله بن هارون عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وهذا نص فيمن كان خارج المصر : لأن تجب الجمعة على كل من سمع النداء في أهل المصر غير معتبر ، فإن قيل : الخبر موقوف على سماع النداء عبد الله بن عمرو بن العاص ، غير مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قلنا : أبو داود رواه عن سفيان موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص وقد أسنده قبيصة وهو ثقة ، والخبر عندنا إذا رواه راو تارة موقوفا وتارة مسندا ، حمل الموقوف على فتواه وحمل المسند على روايته .
ويدل على ذلك أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ولأن لينتهين أقوام يسمعون النداء فلا يحضرون الجمعة أو ليطبع الله تعالى على قلوبهم أبا حنيفة خالف إجماع الصحابة ، رضي الله عنهم : لأن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : الاعتبار بسماع النداء وابن عمر وأبو هريرة وأنس قالوا إن الاعتبار بالإيواء إلى الوطن . ولم يرو عنهم غير هذا . والصحابة إذا أجمعت على قولين في مسألة فإحداث قول ثالث محرم ، كما إذا أجمعوا على قول واحد كان إحداث قول ثان محرما ، ولأنه متمكن من سماع النداء مع ارتفاع العوارض ، فوجب أن تلزمه الجمعة كأهل المصر ، ولأنها صلاة مفروضة فلم يختص بها أهل الأمصار كالظهر ، ولأنها عبادة على البدن شرط فيها الحرية ، فجاز أن يشترط فيها قطع مسافة كالحج .
فأما الجواب عن قوله " لا جمعة إلا على أهل مصر جامع " فهو مروي عن علي ، رضي الله عنه ، وموقوف عليه ، ولو صح مسندا لحمل على من لم يسمع النداء ، وخص بقوله صلى الله عليه وسلم " " لأنه عام ، وهذا خاص منه . الجمعة على كل من سمع النداء
وأما قولهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر أهل العوالي والسواد بها فبهت مع نص كتاب الله تعالى : وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم : لأن الله تعالى قد أمرهم بها بقوله تعالى : فاسعوا إلى ذكر الله [ الجمعة : 9 ] . ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد ندبهم إليها في قوله صلى الله عليه وسلم : . تجب الجمعة على كل مسلم
وأما قياسهم فالمعنى في أصله : أنه لم يبلغهم شعار الجمعة . وأما قولهم لما بطل في البلد بطل اعتباره خارج البلد وهو نداء الجامع فلا يعتبر في أهل البلد ولا في الخارجين عنه ، والنداء الذي اعتبرناه خارج البلد اعتبرناه في البلد وهو النداء في كل موضع منه فاستويا . اعتبار النداء
[ ص: 407 ] وأما قولهم ما قرب من البلد في حكم ما بعد عنه ، فغير صحيح : لأنه لو نوى سفر ما قرب لم يقصر ، ولو نوى سفر ما بعد جاز أن يقصر ، فعلم أن حكم ما قرب قد يخالف حكم ما بعد . فإذا صح ما ذكرناه فهو حجة على جميع من خالفنا .