قال الماوردي : هذا صحيح إذا أصاب الأرض بول صب عليه ما يغمره حتى أزال لونه أو ريحه فقد طهر المكان والماء جميعا لا يختلف فيه أصحابنا ، وإنما اختلفوا في ، فمذهب طهارة الماء المنفصل عن الثوب النجس إذا زال عنه النجاسة الشافعي : أنه طاهر أيضا كالأرض ، ومن أصحابنا من حكم بتنجيسه ، وفرق بينه وبين الأرض بأن قال يطهر الثوب مع الحكم بنجاسة ما انفصل عنها ، لأن الماء إذا اندفع عن محل النجاسة نجس المحل الثاني ، فكانت الضرورة داعية إلى تطهير ما انفصل عنه .
وقال أبو حنيفة : كل ما انفصل عن النجاسة وأزيل بها فهو نجس بكل حال ، فإذا أصاب الأرض بول لم تطهر إلا بكشط ما أصاب البول منها ، فإن صب عليه الماء حتى غمره [ ص: 258 ] لم تطهر إلا أن يندفع الماء عنها إلى بحر ، أو نهر ، وبني ذلك على أصله في أن الماء المزال به النجاسة نجس ، وهو عندنا طاهر .
وقد تقدم فيه الكلام في كتاب " الطهارة " ومما استدل به في ذلك أنه قال : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر في بول الأعرابي بكشط الموضع وإزالة المكان ، وهذا نص ، قال : ولأنه لما نجس الماء بورود النجاسة عليه وجب أن ينجس بوروده على النجاسة ، لأن كل ذلك ماء قليل حلته نجاسة ، وإذا ثبت تنجيسه بما ذكرنا ثبت تنجيس المكان أيضا .
والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه من طهارة المكان بصب الماء عليه : رواية الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ومحمدا ، ولا ترحم معنا أحدا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد حجرت واسعا فما لبث أن بال في المسجد فعجل الناس عليه ، فنهاهم عنه ، وقال : صبوا عليه ذنوبا من ماء ومعلوم أنه أمرهم بصب الذنوب عليه لأجل طهارة المكان ، وزوال النجاسة بما ورد عليها من الماء ، فعلم بذلك طهارة ما انفصل عنها من الماء ، ولأنه لو كان الماء المنفصل عن الثوب نجسا لكان ما بقي من بلله نجسا ، ولو كان نجسا لوجب غسله ، ولو وجب غسله لتعذرت طهارته لبقاء بلله في الغسلة الثانية ، والثالثة ، فدعت الضرورة إلى طهارة بلله ، وإذا كان البلل طاهرا كان المنفصل عنه طاهرا ، لأن الماء الواحد لا يكون بعضه طاهرا وبعضه نجسا ، وبهذا المعنى فرقنا بين ما ذكره من الجمع بين ورود الماء على النجاسة ، وورود النجاسة على الماء . أن أعرابيا دخل المسجد ، فقال : اللهم ارحمني
فأما استدلاله بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بكشط المكان فحديث ضعيف وإن صح استعمال الحديثين جميعا لورودهما في زمانين ، وذلك أولى من إطراح أحدهما ، واستعمال الآخر ، وإذا ثبت ما ذكرناه فالذنوب هو : الدلو الكبير قال الشاعر :
لنا ذنوب ولكم ذنوب فإن أبيتم فلنا القليب
وقد يعبر بالذنوب عن النصيب : قال الله تعالى : فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون [ الذاريات : 59 ] يعني : نصيبا .ومنه قول الشاعر :
لعمرك والمنايا غالبات لكل بني أب منها ذنوب
[ ص: 259 ] وقال أبو العباس بن سريج ، وأبو إسحاق المروزي : ليس الذنوب حدا ، وإنما الاعتبار بالمكاثرة ، وهو ظاهر قول الشافعي ، ومنصوصه ألا تراه قال : " ويشبه الماء أن يكون سبعة أمثال النجاسة " ، وليس سبعة أمثالها حدا في طهارته أيضا ، وإنما هو تمثيل على طريق التقريب .
والدلالة على أن الذنوب ليس بحد في طهارته هو أن اعتبار طهارة البولة بالذنوب تؤدي إلى تطهير كثير النجاسة بقليل الماء وقليل النجاسة بكثير الماء : لأنه ربما كان بول الرجل الواحد مماثلا لبول ثلاثة رجال فمتفق على قدر نجاستها ، ويختلف قدر الماء في طهارتها ، وهذا يخالف ما تقرر من الحكم في إزالة الأنجاس .