فصل : والدليل على أن ثابت يستحق مع الغنى والفقر قوله تعالى : سهم ذي القربى ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى [ الحشر : 7 ] فأضاف الخمس إلى خمسة أصناف بلام التمليك وجمع بينهم بواو التشريك ، فاقتضى الظاهر تساويهم بجميعهم بالأوصاف التي أضافها الله تعالى إليهم ، وهو إنما وصفهم بذي القربى فدل على استحقاقهم إياه باسم القرابة لا بالفقر ، وقال تعالى : فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل [ الروم : 38 ] قال السدي : هم ذوي القربى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم وبني المطلب .
وروى الشافعي عن مطرف بن مازن عن معمر بن راشد عن ابن شهاب قال : أخبرني محمد بن جبير عن أبيه قال بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلت : يا رسول الله ، هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم ، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما قرابتنا واحدة ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد كذا ، وشبك بين أصابعه ، وفي بعض الروايات لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام . لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى بين
والدلالة في هذا الخبر من وجهين :
أحدهما : أن عثمان بن عفان وجبيرا كانا من أغنياء قريش ، سألاه لم أعطيت بني هاشم وبني المطلب وحرمتنا ، ونحن وهم في القرابة سواء ، فلم يجعل سبب المنع الغنى ؛ فدل على أن الغني فيه كالفقير .
والثاني : أنه كان في بني هاشم وبني المطلب أغنياء وفقراء وقد أعطاهم وكان في عبد شمس أغنياء وفقراء وقد حرمهم : فدل على أنه اعتبر القرابة دون الفقر .
فإن قيل : النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتبر النصرة دون القرابة : لأن هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا كانوا أخوة وكلهم بنو عبد مناف ، وقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى ببني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس ونوفل وجميعهم في القرابة سواء ، لما قال في ضم بني المطلب إلى بني هاشم بأنهم شيء واحد ولم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام ليعلمهم أن بني عبد شمس وبني نوفل قد خالفوهم في الجاهلية والإسلام ، فدل على أن العطاء إنما كان لأجل الندرة التي ميزتهم بها دون القرابة التي قد اشتركوا فيها فاختلف أصحابنا لأجل ذلك في على ثلاثة أوجه : سبب الاستحقاق
أحدها : أن الاستحقاق بالقرابة وحدها دون النصرة ، ولأنه ليس للنصرة فيها تأثير : لأنه لم يذكره عثمان وجبير في طلبهما ولا ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في منعهما ودفع ذلك لمن لا نصرة [ ص: 432 ] فيه من صغير وكبير ورجل وامرأة ومنع من ظهرت من غيرهم ، وإن لم يكن من بني المطلب من قام بالنصرة مقام أبي بكر وعمر وعثمان وأبي دجانة وخالد بن الوليد ، فمنعهم وأعطى من بني المطلب من هو أقل نصرة منهم ، فدل على أنهم استحقوا ذلك بالقرابة لا بالنصرة .
والوجه الثاني : أن الاستحقاق بالقرابة والتقديم بالنصرة كما نقول في الأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب ابنهما في التعصيب بالأب سواء ، ويقدم أحدهما على الآخر للأم وإن اشتركا في التعصيب ، كذلك بني المطلب وإن شاركوا بني عبد مناف وبني نوفل في القرابة قدموا عليهم بما اختصوا به من النصرة .
فإن قيل : فإذا كان التقديم بالنصرة فهلا زال حكمهما بزوالها وقد زالت اليوم . قيل : النصرة في الآباء أوجبت ثبوت حكمها في الأبناء كما نقول في تمييز كفرة أهل الكتاب على المشركين في قبول الجزية : إن حرمة آبائهم حين كانوا على حق أوجبت ثبوتها لأبنائهم وإن زالوا عن الحق .
والوجه الثالث : أن الاستحقاق بالقرابة وحدها والمنع مع وجودها لسبب آخر كما نقول في ابنين أحدهما قاتل أنهما وإن استويا في البنوة ، فالقاتل ممنوع بعلة ، فكذلك بنو عبد شمس وبنو نوفل وإن ساووا بني هاشم وبني المطلب في القرابة ، فقد كان منهم ما يسقط به حقهم كما يسقط حق الابن القاتل .
فإن قيل : جبير بن مطعم راوي هذا الحديث أسلم بعد فتح خيبر ، فلم يلتفت إلى حديثه في أحكام غنائهما فعن ذلك جوابان :
أحدهما : أنه لم يعين الخبر في خمس خيبر ، وقد كان بعدها غنائم يحمل خبره على خمسها .
والجواب الثاني : قد كان أكثرها فيئا فيستغل في كل عام ، فكان خمسه باقيا .
وروي أن الفضل بن العباس استشفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعلي - رضوان الله عليهما - في عمالة الصدقات ، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس فجعل لهم خمس الخمس تنزيها عما يملك بالفقر من الصدقات فلم يجز أن يستحقوه بالفقر المشروط في الصدقات ، ويدل على ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد روي على وجهين يكون في أحدهما نص مسند ، فهو ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : عليا - رضي الله عنه - يقول اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن تولينا حقنا من هذا الخمس في كتاب الله فاقسمه في حياتك كي لا ينازعنا أحد بعدك فافعل ، قال : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نفعل ذلك . فولانيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمته في حياته ، ثم في ولاية أبي بكر حتى كانت آخر سنة من سني عمر ، فإنه أتاه [ ص: 433 ] مال كثير فعزل حقنا ، ثم أرسل إلي فقلت : لنا عنه العام غناء وبالمسلمين الآن حاجة فاردده عليهم ، فرده عليهم ، فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال : يا علي ، حرمتنا ! لا ترد علينا أبدا ، وكان رجلا داهيا فلم يدعني إليه أحد بعد عمر . سمعت
فدل قول علي للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إن رأيت أن تولينا حقنا على أنه حق يختص بهم لا يستحق بالفقر الذي هو في غيرهم .
وأما الوجه الذي يكون إجماعا منعقدا فهو ما رواه الحكم بن عيينة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، قال : لقيت عليا - عليه السلام - عند أحجار الركب فقلت له : بأبي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس ؟ فقال علي : أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفاناه ، وأما عمر فلم يزل يعطينا حتى جاءه مال السوس والأهواز ، أو قال مال فارس - الشافعي يشك - ، فقال عمر : إن بالمسلمين خلة ، فإن أحببتم تركتم حقكم ، فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم ، فقال العباس لعلي : لا تطمعهم في حقنا ، فقلت يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين ودفع خلة المسلمين ، فتوفي عمر قبل أن يأتيه مال فيقضيناه . فدل استنزال عمر لهم ثمنه بخلة المسلمين أنهم لم يستحقوه بالفقر الذي قد شاركوا فيه فقراء المسلمين ، ولكنه حق لهم لا يسقط بمطالبتهم ، ولا يؤخر لفقرهم وإنهم يستحقون قضاء ما أخروه من حقهم .
وروى زيد بن هرمز أن نجدة الحروري حين حج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى ويقول : لمن تراه ؟ قال ابن عباس : لقربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان عمر عوض من ذلك عوضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله : ولأنهم أحد أصناف أهل الخمس ، فوجب ألا يسقط حقهم منه كسائر الأصناف .
ولأن من حرمت عليه الصدقات المفروضات في جميع الأحوال ثبت لهم سهم في الخمس كالنبي - صلى الله عليه وسلم - : ولأنهم عوضوا عن الصدقات المفروضات بخمس الخمس : لقوله - صلى الله عليه وسلم - : أوليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس ، فلما كان تحريم الصدقات عليهم ثابتا لا يزول ، كان ما عوضوه من خمس الخمس ثابتا لهم لا يزول .
وتحريره أن ما تميز به ذوو القربى في الأموال استلزم ثبوته قياسا على تحريم الصدقات .
فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن موروثا كان ساقطا ، فهو أن الميراث إذا انتفى عنه رد إلى ما قد أقيم مقامه من وجوه المصالح لقومه في حقه مقام الميراث في حق غيره ، فوجب أن يكون ذلك مصرف ماله .
[ ص: 434 ] وأما الجواب عن قوله إن سقوط حقه من الصفي بموته يوجب سقوط حقه من غيره ، فهو أن الحق من الصفي غير مقدر ، فلا يكون ثابتا بعد موته ، وإنما كان يأخذ من الغنيمة ما شاء باختياره واختياره للصفي معدوم بعد موته فسقط بخلاف غيره .
وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة في لقوله تعالى : سقوط سهم ذي القربى كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ الحشر : 7 ] من وجهين :
أحدهما : أنه راجع إلى جميع الخمس وليس هو دولة بين الأغنياء : لأن سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل يستحق بالفقر .
والثاني : أنه سهم ذي القربى ليست هو دولة بين الأغنياء : لأنه يشترك فيه الأغنياء والفقراء ، وما كان دولة بين الأغنياء خرج عن أن يكون فيه حق للفقراء .
وأما الجواب عن استدلاله بحديث علي ( عليه السلام ) أنه رد سهم ذي القربى لغناهم على المسلمين لخلتهم وفقرهم فمن وجهين :
أحدهما : أنه اختار ترك حقه ومن يترك حقه باختياره لم يدل على سقوط استحقاقه .
والثاني : أنه أخره لخلة المسلمين ليأخذ عوضه عند استغنائهم ، فكان حقه ثابتا باقيا وهو أدل شيء على ثبوت استحقاقه .
وأما الجواب عن قياسه على الصدقات مع جواز أن يدفع من الصدقات إلى أغنياء العاملين والمؤلفة قلوبهم والغارمين فهو أن الصدقة مواساة ، فجاز أن يكون الفقراء أحق بها ، والخمس يملك من غنائم المشركين قهرا لا بالمواساة ، فجاز أن يشترك فيه الفقراء والأغنياء كالغانمين .
وأما الجواب عن قياسهم عن اليتامى والمساكين فهو أن ما أخذ باسم المسكنة والفقر جاز أن يكون الفقر فيه شرطا ، وما أخذ باسم القرابة كانت القرابة شرطا فيه إذا وجدت ولم يكن الفقر شرطا ، وما أخذ باسم القرابة كانت القرابة كالميراث ، والله أعلم .
( قال الشافعي ) فيعطى سهم ذي القربى في ذي القربى حيث كانوا ، ولا يفضل أحد على أحد حضر القتال أو لم يحضر إلا سهمه في الغنيمة كسهم العامة ولا فقير على غني ، لأنهم أعطوا باسم القرابة ، فإن قيل : فقد أعطى بعضهم مائة وسق وبعضهم أقل ؛ قيل : لأن بعضهم كان ذا ولد ، فإذا أعطاه حظه وحظ غيره فقد أعطاه أكثر من غيره ، والدلالة على صحة ما حكيت من التسوية أن كل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا في ذلك وأن باسم القرابة أعطوا . وإن حديث ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهما جبير بن مطعم بني هاشم وبني المطلب " . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم سهم ذي القربى بين
[ ص: 435 ] قال الماوردي : وهذا صحيح وقد مضى الكلام في أن سهم ذي القربى ثابت وثبوته يقتضي إبانة أحكامهم فيه وذلك يشتمل على خمسة فصول :
فالفصل الأول : في وهم ذي القربى من هم ؟ بنو هاشم ، وبنو المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وجميعهم بنو عبد مناف ، وكان لعبد مناف مع هؤلاء الأربعة خامس اسمه عمرو وليس له عقب ، فأما هاشم فهو جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، فهاشم في عمود الشرف الذي تعدى شرفه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أخوته ، والمطلب أخوه والشافعي من ولده ، ثم عبد شمس أخوهما وعثمان من ولده ، ثم نوفل أخوهم وجبير بن مطعم من ولده : فاختص بسهم ذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس ونوفل لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : بني هاشم وبني المطلب شيء واحد لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام يعني أنهم كانوا متناصرين بحلف عقدوه بينهم في الجاهلية ويتميز به عن إن بني عبد شمس ونوفل : ولهذا الحلف دخل بنو المطلب مع بني هاشم الشعب بمكة حين دخله رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من الخمس شيئا كما قسم لبني هاشم وبني المطلب .