فصل : [ حكم مال الفيء ]
وأما ، كالذي انجلى عنه المشركون خوفا ورعبا ، كالأموال التي صالحونا بها عن أنفسهم وديارهم وأموالهم استكفافا وتورعا والمأخوذة من عشور أموالهم إذا دخلوا علينا تجارا ، والجزية التي نقرهم بها في دارنا وقال : والخراج المضروب على أراضيهم ، والأرضين المأخوذة عفوا منهم وقال : من مات في دارنا ولا وارث له منهم ، كل ذلك فيء ؛ لأنه واصل بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، هذا هو المنصوص عليه من مذهب مال الفيء وهي الأموال الواصلة من المشركين بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب الشافعي في الجديد ، وله في القديم قول آخر : أن الفيء في جميع ذلك ما انجلى عنه المشركون من ذلك خوفا ورعبا ، لقوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول [ الحشر : 7 ] وما سواه من الجزية والخراج وعشور تجارتهم وميراث من مات منهم لا يكون فيئا ويكون مصروفا في المصالح ولا يخمس ، والقول الأول من قوله أصح ، لاستواء جميعهما في الوصول إلينا بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، وإذا كان جميع ذلك فيئا فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام يملك جميع الفيء كما ملك جميع الغنيمة ، ولذلك ملك أموال بني النضير ، فكانت مما أفاء الله - عز وجل - عليه لم يشاركه فيها أحد وصارت من صدقاته التي تصدق بها إلى أن أنزل الله تعالى : [ ص: 389 ] ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين [ الحشر : 7 ] الآية ، فاختلف الناس حينئذ ، فيما استقر عليه على ثلاثة مذاهب : حكم الفيء
أحدهما وهو قول أبي حنيفة : أن مال الفيء مصروف في وجوه المصالح ولا يخمس ، استدلالا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصرفه فيها .
والثاني وهو قول مالك : أن مال الفيء مقسوم على خمسة أسهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها سهم كأحد أهل الخمس ولا يختص بأربعة أخماسه ، استدلالا بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " " . ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم
والثالث وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - : أن خمسه مقسوم على خمسة ، منها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ، وأربعة أخماسه له خاصة ، فيكون جميع مال الفيء مقسوما على خمسة وعشرين سهما ، منها أحد وعشرون سهما لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأربعة أسهم هي لأربعة أصناف هم ذوو القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل .
والدليل على ذلك قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين فأضاف الله تعالى الفيء إلى رسوله كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين ، ثم استثنى من استثناه في سهم الغانمين ، فوجب أن يكون إطلاق ما جعل له من الفيء محمولا على المقدار المجعول لهم من الغنيمة وهو الخمس ويكون الباقي بعده لمن أضاف المال إليه وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما كان الباقي من الغنيمة لمن أضافها إليه وهم الغانمون .
وروى الشافعي قال : سمعت ابن عيينة يحدث عن الزهري أنه سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول : سمعت عمر بن الخطاب والعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب يختصمان إليه في أموال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصا دون المسلمين ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق منها على أهله نفقة سنة فما فضل منها جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله ، ثم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوليهاأبو بكر - رضي الله عنه - بمثل ما وليها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم وليتها بمثل ما وليها رسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، ثم سألتماني أن أوليكماها فوليتكماها على ألا تعملا فيها إلا بمثل ما وليها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ، ثم وليتماها ثم جئتماني تختصمان ، أتريدان أن أدفع إلى كل واحد منكما نصفا ، أتريدان مني قضاء غير ما قضيت بينكما أولا ؟ فلا والذي بإذنه تقوم السماوات والأرض ، لا أقضي بينكما قضاء غير هذا ، فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي أكفيكماها .
[ ص: 390 ] فوجه الدلالة أن هذا الخبر يقتضي كل مرة بأن جميع الفيء ملك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظاهر الآية تدل على أن كل الفيء مقسوم على خمسة فاقتضى الجمع بينهما أن يكون معنى الخبر أن أربعة أخماسه خالص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومعنى الآية أن خمسه مقسوم على خمسة حتى يستعمل على وجه لا يتنافيا ولا يسقط واحد منهما بالآخر ، ثم يدل على أبي حنيفة أن ما يملك من المشركين لم يكن جميعه خمسا كالغنيمة ، ثم يدل عليها أنه لما كان أربعة أخماس الغنيمة ملكا للغانمين للوصول إليها بالرعب من المقاتلة وجب أن يكون أربعة أخماس الفيء ملكا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوصول إليه بالرعب منه ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : . نصرت بالرعب فالعدو يرهبني مسيرة شهر أو شهرين
فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصرف ذلك في المصالح ، فهو أن أمواله كان يصرفها في طاعة الله ولا يدل لقربه إلى الله تعالى بها على أنه غير مالك لها .
وأما الجواب عن استدلال مالك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : فهو أنه محمول على الغنيمة دون الفيء ؛ لأنه أضاف ذلك إلينا ، والغنيمة هي المضافة إلينا ، فأما الفيء فهو مضاف إليه لا إلينا . ما لي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس