مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا تنفسخ بموت أحدهما ما كانت الدار قائمة وليس الوارث بأكثر من الموروث الذي عنه ورثوا فإن قيل فقد انتفع المكري بالثمن قيل كما لو أسلم في رطب لوقت فانقطع رجع بالثمن ، وقد انتفع به البائع ولو باع متاعا غائبا ببلد ودفع الثمن فهلك المبتاع رجع بالثمن ، وقد انتفع به البائع ( قال المزني ) رحمه الله : وهذا تجويز ونفاه في مكان آخر " . بيع الغائب
قال الماوردي : وهذا كما قال . . وبه قال عقد الإجارة لازم لا ينفسخ بموت المؤجر ، ولا المستأجر مالك وأحمد وإسحاق .
[ ص: 401 ] وقال أبو حنيفة ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد : الإجارة تبطل بموت المؤجر والمستأجر استدلالا بأن عقود المنافع تبطل بموت العاقد كالنكاح ، والمضاربة ، والوكالة ولأن الإجارة تفتقر إلى مؤجر ومؤاجر فلما بطلت بتلف المؤاجر بطلت بتلف المؤجر . وتحريره قياسا أنه عقد إجارة يبطل بتلف المؤاجر ، فوجب أن يبطل بتلف المؤجر قياسا عليه إذا أجر نفسه ؛ ولأن زوال ملك المؤجر عن رقبة المؤاجرة يوجب فسخ الإجارة قياسا عليه إذا باع ما أجره برضى المستأجر ؛ ولأن منافع الإجارة إما تستوفى بالعقد والملك ، وقد زال ملك المؤجر بالموت وإن كان عاقدا ، والوارث لا عقد عليه وإن صار مالكا فصارت منتقلة عن العاقد إلى من ليس بعاقد فوجب أن تبطل لتنافي اجتماع العقد والملك .
ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم ينفسخ بموت أحد المتعاقدين كالبيع ، فإن قيل : ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح : لأن العقد إنما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد ، ألا تراه لو كان حيا فمرض بطلت الإجارة وإن كان العاقد حيا : لأن السيد قد يعاوض على بضع أمته بعقد النكاح كما يعاوض على خدمتها بعقد الإجارة ، فلما لم يكن موته مبطلا للعقد على بضعها لم يبطل بالعقد على استخدامها .
ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان :
أحدهما : أنه عقد لازم على منافع ملكه ، فلم يبطل بموته كالنكاح على أمته .
والثاني : أنه أحد منفعتي الأمة ، فلم يبطل بموت السيد كالمنفعة الأخرى ؛ ولأن المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالأعيان ، فجاز أن تنتقل بالإرث كالأعيان ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان :
أحدهما : أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن ينتقل إرثا كالأعيان .
والثاني : أن ما صح أن ينتقل به الأعيان في البياعات صح أن ينتقل به المنافع في الإجارات أصله عقد الحي المختار .
ولأن بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الإجارة ، فلم يبطل به العقد كالجنون والزمانة ؛ ولأنه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع ، ولأن منافع الأعيان مع بقاء ملكها قد تستحق بالرهن تارة وبالإجارة أخرى ، فلما كان ما تستحق منفعة ارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالإجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان إجارته ، وقد استدل الشافعي بهذا في الأم ؛ ولأن الوارث إنما يملك بالإرث ما كان يملكه الموروث ، والموروث إنما كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكا للرقبة والمنفعة ؛ ولأن إجارة الوقف لا تبطل بموت مؤجره .
وتحريره قياسا أنه عقد إجارة يمكن استيفاء المنفعة فيه فوجب أن لا تبطل بموت مؤجره كالوقف .
وأما الجواب عن قياسه على النكاح والمضاربة مع انتقاضه بالوقف ، فهو أنه إن رده إلى [ ص: 402 ] النكاح فالنكاح لم يبطل بالموت وإنما انقضت مدته بالموت فصار كانقضاء مدة الإجارة وإن رده إلى المضاربة والوكالة ، فالمعنى فيهما عدم لزومهما في حال الحياة وجواز فسخها بغير عذر ، وليست الإجارة كذلك للزومها في حال الحياة .
وأما الجواب عن قياسه على انهدام الدار فهو أن المعنى فيه فوات المعقود عليه قبل قبضه .
وأما الجواب عن قياسه على ما إذا باع ما أجر برضا المستأجر فهو غير مسلم الأصل : لأن الإجارة لا تبطل بالبيع عن رضاه كما لا تبطل بالبيع عن سخطه ، وإنما البيع مختلف في إبطاله ثم ينتقض على أصله بعتق العبد المؤاجر قد زال ملك سيده عن رقبته مع بقاء الإجارة عليها ، فكذلك إذا زال ملكه بالبيع والموت ، وأما الجواب عن استدلاله بأن المنافع تستوفى بعقد وملك وهذا مفترق بالموت ، فهو أن اجتماعها يعتبر عند العقد ولا يعتبر فيما بعد كما لو أعتق أو باع ، ولا يمتنع أن يستوفى من يد الوارث ما لم يعاقد عليه كما يستوفى منه ثمن ما اشتراه الموروث ويقبض منه أعيان ما باعه الموروث : لأن الموروث قد ملك عليه ذلك بعقده ، فلم يملكه الوارث بموته .