[ ص: 332 ] باب جواز حبس من عليه الدين
قال الشافعي رضي الله عنه : " وإذا ثبت عليه الدين بيع ما ظهر له ودفع ولم يحبس ، وإن لم يظهر حبس وبيع ما قدر عليه من ماله ، فإن ذكر عسره قبلت منه البينة لقول الله جل وعز وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأحلفه مع ذلك بالله وأخليه " .
قال الماوردي : وهذا كما قال ، لم يخل حاله من أحد أمرين : إما أن يظهر له مال أو لا يظهر ، فإن ظهر له مال بيع في دينه ، والأولى أن يتولاه المفلس إن كان حاضرا ليقع الإشهاد عليه بعد أن يأذن له الحاكم فيه ، وليس يحتاج إلى إثبات البينة عند الحاكم بملك ما باع إذا كان هو المتولي لبيعه ، فإن لم يحضر بيع ماله أو حضر فامتنع من بيعه لم يجز للحاكم أن يبيعه إلا بعد ثبوت البينة عند تملكه له وإذا ثبتت به البينة ، ويقدم بالبيع إلى أمين له ، وأجاز الحاكم بيعه ، فإذا بيعت عليه أمواله الظاهرة فإن كان فيها وفاء بدينه فك حجره في الحال لزوال ما يستحق به الحجر ، والحجر في هذا الموضع يرتفع بقضاء الدين ولا يفتقر إلى حكم الحاكم برفعه ، وإن لم يكن فيما بيع من ماله وفاء بدينه كان فيما بقي منه كمن لم يظهر له مال ، وإذا لم يظهر له مال سئل عن ماله ؟ فإن ذكر مالا حكم فيه بما ذكرنا في ماله الظاهر ، وإن لم يذكر له مالا وادعى العسرة سئل الغرماء عنه ، فإن صدقوه في الإعسار خلي عنه ولم يحبسه وفك حجره ليكتسب بتصرفه ما يكون مصروفا في قضاء دينه ، وإن كذبوه في الإعسار وادعوا عليه اليسار لم تخل حال الديون التي لزمته من أحد أمرين : إما أن تكون في مقابلته مال أو لا ، فإن لم يكن في مقابلة مال كأروش الجنايات وصداق الزوجات وغرم العواري والضمان فالقول قوله في الإعسار مع يمينه ، لأن الأصل في الناس الإعسار ويفك حجره ويطلق ولا يحبس إلا أن يقيم الغرماء البينة بيساره ، فإن كانت ديونه في مقابلة مال كأثمان المبيعات وبدل القرض فلا يقبل منه دعواه الإعسار لثبوت يساره بما صار إليه في مقابلة دينه ، إلا أن يقيم البينة بإعساره ، فإن أقام البينة به نظر في البينة ، فإن شهدت بهلاكه وتلفه سمعت ، سواء كان الشهود من أهل المعرفة الباطنة به أم لا ، لأنها بينة بثبوت جائحة قد يعلمها البعيد كما يعلمها القريب ، وإن شهدت البينة بإعساره من غير أن يشهدوا بتلف ماله فإن كانوا من أهل المعرفة الباطنة فيه قبلت شهادتهم ، وإن لم يكونوا من أهل المعرفة الباطنة به لم تقبل [ ص: 333 ] شهادتهم لأن حدوث الإعسار لا يعلمه إلا من يخبر باطن أمره ، فإذا ثبتت البينة بإعساره على ما وصفنا فإن سأل الغرماء إحلافه على إعساره بعد إقامة البينة على الإعسار أحلف لهم ، وقال إذا حجر على المفلس بديونه أبو حنيفة : لا يجوز أن يحلف بعد قيام البينة بإعساره ؛ لأن في ذلك وذلك غير جائز في الأصول ، وهذا غلط لأن ما يطالب باليمين على نفيه غير ما قامت البينة به ، لأن شهادة البينة تنفي ما ظهر من المال ، ويمينه ينفي ما خفي من المال ، فصار المنفي بالبينة غير المنفي باليمين ، وجرى ذلك مجرى رجل ادعى على رجل مالا وأقام بينة فادعى المشهود عليه أنه أبرأه من الدين وأن المدعي يحلف مع البينة بالله أنه لم يبرئه ، ولا يكون ذلك جمعا بين البينة واليمين ؛ لأن ما أثبته بالبينة غير ما نفاه باليمين ، فإذا ثبت أنه يحلف مع قيام البينة فحلف وجب أن يفك عنه الحجر ويخلى ، وبماذا جمعا بين البينة واليمين ؟ على وجهين : يفك حجره
أحدهما وهو قول أبي إسحاق المروزي : أنه ينفك الحجر عنه بقيام البينة بإعساره مع يمينه من غير أن يفتقر فك الحجر إلى حكم الحاكم به ، لأن ثبوت إعساره يوجب فك حجره كما يوجب قضاء دينه ، ثم كان قضاء الدين يقع به فك الحجر من غير حكم فكذلك الإعسار .
والوجه الثاني : أنه لا ينفك عنه الحجر إلا بحكم الحاكم ، لأن تعلق حقوق الغرماء بذمته يقتضي وجوب مطالبته ، فلم يسقط حقهم من ذلك إلا بحكم ، بخلاف المؤدي لجميع دينه ويوشك أن يكون هذان الوجهان مخرجين من اختلاف قوليه في معنى الحجر ، فإن قيل : إنه يجري مجرى حجر المرض انفك الحجر عنه بغير حكم كالمريض ، وإن قيل : إنه يجري مجرى حجر السفه لم ينفك الحجر عنه إلا بحكم كالسفيه .