فصل : وأما الحكم الرابع ، وهو وجوب : فقد اختلف قول الفقهاء في قدرها بعد اتفاقهم على وجوبها ، فذهب الكفارة الشافعي أن الكفارة بدنة .
وقال الحسن : الكفارة عتق رقبة كالوطء في الصوم .
وقال أبو حنيفة : الكفارة شاة استدلالا بأن السبب الواحد لا يجوز أن يجب له التغليظ من وجهين ، فلما لزمه القضاء تغليظا ، وجب أن لا يلزمه البدنة تغليظا ، ولزمه الشاة اعتبارا [ ص: 217 ] بمحظورات الإحرام ؛ ولأن قضاء الحج يجب بشيئين فوات وفساد ، فلما وجب بفوات القضاء والتكفير بشاة ، وجب أن يجب بالفساد القضاء والتكفير بشاة .
وتحرير ذلك قياسا أنه أحد سببي ما يجب به القضاء فوجب أن يوجب التكفير بشاة كالفوات .
ودليلنا ما روي عن عمر وعلي وابن عباس وأبي هريرة وأبي موسى أن على الواطئ في الحج بدنة ، ولم يفرقوا قبل عرفة وبعد عرفة ، وليس يعرف لهم في الصحابة مخالف فكان إجماعا ، ولأن الإحرام قبل الوقوف أقوى منه بعد الوقوف ، ثم ثبت أن الوطء يوجب البدنة بعد الوقوف اتفاقا ، فأولى أن يكون يوجب البدنة قبل الوقوف حجاجا .
وتحرير ذلك قياسا أنه وطء عمد صادف إحراما لم يتحلل شيئا منه ، فوجب أن تجب فيه بدنة كالوطء بعد الوقوف بعرفة ؛ ولأن كل سبب يوجب الفدية قبل الوقوف وبعده ، فالفدية الواجبة قبل الوقوف كالفدية الواجبة بعده قياسا على جزاء الصيد وفدية الأذى ؛ ولأن كل عبادة يوجب الوطء فيها الكفارة مع القضاء ، فتلك الكفارة هي العليا كالوطء في رمضان ، فأما استدلاله بأن السبب الواحد لا يجوز أن يجب به التغليظ من وجهين فباطل بالوطء في الصوم ، على أن الكفارة تغليظ ، وقد أجمعنا على إيجابها مع القضاء ، وإنما الخلاف في قدرها ، وأما جمعه بين الفساد والفوات فغير صحيح : لأن الكفارة إنما تغلظ لغلظ الفعل وعظم الإثم ، والفساد بالوطء معصية بعظم إثمها ، وقد لا يكون الفوات معصية يأثم بها ، فلم يجز أن يجمع بينهما في الكفارة مع افتراقهما في المعصية فهذا حكم القسم الأول في الوطء قبل الوقوف بعرفة وكذا حكمه لو كان في عرفة .
والقسم الثاني : أن يطأ بعد الوقوف بعرفة وقبل الإحلال الأول ، فمذهب الشافعي أنه كالوطء قبل الوقوف بعرفة في وجوب الأحكام الأربعة ، وهي فساد الحج : ووجوب الإتمام ، ولزوم القضاء والكفارة ، وهي بدنة .
وقال أبو حنيفة : لا يفسد حجه وعليه بدنة ، فوافق في البدنة بعد الوقوف ، وإن كان مخالفا فيها قبل الوقوف ، وخالف في فساد الحج بعد الوقوف ، وإن كان موافقا فيه قبل الوقوف ، استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم : عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج فعلق إدراك الحج الحج بعرفة ، فوجب أن ينتفي ورود الفساد بعد عرفة : لأن الفساد يمنع من إدراك الحج ؛ ولأنه حج لا يطرأ عليه الفوات ، فوجب أن لا يطرأ عليه الفساد كالوطء بعد التحلل الأول ؛ ولأن قضاء الحج يجب بالفوات كما يجب بالفساد ، ثم تقرر أن الفوات يسقط بالوقوف ، فوجب أن يكون الفساد يسقط بالوقوف .
وتحرير ذلك قياسا أنه أحد سببي ما يجب به القضاء ، فوجب أن يسقط بالوقوف كالفوات ؛ ولأنه بعد الوقوف بعرفة هو ممنوع من الوطء لأجل بقاء الرمي يقع به التحلل [ ص: 218 ] الأول ، فلما كان ترك الرمي لا يفسد الحج ، فالوطء الذي منع منه لأجل الرمي أولى أن لا يفسد الحج .
ودليلنا قوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج [ البقرة : 197 ] ، فنهى عن الجماع فيه ، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه ؛ ولأنه وطء عمد صادف إحراما لم يتحلل شيء منه ، فوجب أن يفسده كالوطء قبل الوقوف ؛ ولأنه عبادة تجمع تحريما وتحليلا ، فجاز أن يطرأ الفساد عليها إلى أن يقع الإحلال منها كالصلاة ، فإن قيل المعنى في الصلاة ورود الفساد عليها مع بقاء شيء من إحرامها ، والحج لا يرد عليه الفساد بعد الإحلال الأول ، وإن كان باقيا في إحرامه ، قيل : هما في المعنى سواء ، وكل واحد منها يرد عليه الفساد قبل الخروج منه وبالإحلال الأول يكون خارجا من الحج ، قال الشافعي نصا في القديم ، وإذا تحلل التحلل الأول ، فقد أكمل الحج وخرج من الإحرام ، فهو يطوف ويسعى في غير الإحرام ، فإن قيل فلم منعتموه الوطء إذا كان خارجا من الإحرام ، قيل : لبقاء حكمه كالحائض التي تمنع من الوطء بعد انقطاع الحيض وقبل الغسل لبقاء حكمه ؛ ولأن الوقوف بعرفة يستفاد الأمن من فوات الحج ، والأمن من جواز العبادة لا يمنع من ورود الفساد عليها كالعمرة ، فوجب أن يستوي في إفساد الحج حكم ما قبل الوقوف بعرفة ، وما بعد الوقوف بعرفة ، وتحرير ذلك قياسا أنه محرم بعبادة أمن فواتها ، فجاز أن يفسدها الوطء ما لم يتحلل منها كالعمرة ، فإن قيل : المعنى في العمرة أنه لا يخشى فواتها بحال ؛ فلذلك جاز ورود الفساد عليها قبل الإحلال ، ولما كان الحج مما يخشى فواته في حال جاز أن لا يرد عليه الفساد قبل الإحلال ، قيل : هذا فاسد بالظهر والجمعة قد استويا في ورود الفساد عليهما ، وإن كانت الجمعة فخاف فواتها والظهر يأمن فواتها ؛ ولأنه فعل حرمة الإحرام فوجب أن يستوي حكم قبل الوقوف وبعده قياسا على سائر المحظورات .
فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج فهو استعمال ظاهره متعذر ؛ لأن بإدراك الحج عرفة لا يكون مدركا للحج الطواف والسعي ، وإنما يكون مدركا لركن من أركان الحج يأمن به فوات الحج ، وذلك لا يمنع من ورود الفساد استشهادا بما ذكرناه .
وأما قياسهم على الوطء بعد التحلل الأول ، فالمعنى فيه : أنه قد تحلل من إحرامه بما استباح من محظوراته ؛ فلذلك لحقه الفساد بوطئه ، وأما قياسهم على الفوات فغير صحيح : لأن الفوات أخف حالا من الفساد : لأن الفوات يسقط بإدراك بعض الشيء ، والفساد لا يسقط بإدراك بعض الشيء ، ألا ترى أن من أدرك ركعة من الجمعة فقد أمن فواتها ولا يأمن فسادها ، فكذلك جاز أن يأمن بالوقوف فوات الحج ولا يأمن فساده .
وأما قولهم : إن ترك الرمي لما لم يفسد الحج : فالوطء الذي منع منه لأجل الرمي أولى [ ص: 219 ] أن لا يفسد الحج ، قيل : ليس تحريم الوطء لأجل بقاء الرمي ، وإنما هو لأجل بقاء الإحرام ، وبقاء الإحرام يؤذن بفساد العبادة كالصلاة والصيام .
والقسم الثالث : أن يطأ بعد إحلاله الأول وقبل الثاني : فحجه صحيح مجزئ ولا قضاء عليه .
وقال مالك : قد فسد بوطئه ما بقي من حجه ، وعليه قضاء عمرة من التنعيم ؛ لأن الباقي من حجه طواف وسعي وحلاق وذلك جمرة ، فلذلك لزمه قضاء عمرة .
ودليلنا ما روي عن ابن عباس أنه قال : إذا وطئ بعد التحلل ، وروي بعد الرمي فحجه تام وعليه بدنة ، وليس يعرف له مخالف ؛ ولأنه فعل لم يفسد به الإحرام ، فوجب أن لا يلزمه به تجديد إحرام ، كالاستمتاع دون الفرج وسائر المحرمات ؛ ولأن الأصول موضوعة على أن ما أفسد بعض العبادة أفسد جميعها ، وما لم يفسد جميعها لم يفسد شيئا منها ، استشهادا بالصلاة والصيام ، فلما كان هذا الوطء غير مفسد لما مضى ، وجب أن يكون غير مفسد لما بقي ؛ ولأنه لو جاز أن يكون الوطء بعد الإحلال الأول مفسدا لباقي الحج دون ماضيه ؛ لجاز أن يكون الوطء بعد الوقوف مفسدا لباقي الحج دون ماضيه ، فلما كان هذا فاسدا بعد الوقوف وجب أن يكون فاسدا بعد الإحلال ، فإذا ثبت أن حجه صحيح ، وأنه لا قضاء عليه فالكفارة عليه واجبة ، وفيها وجهان :
أحدهما : بدنة لحديث ابن عباس ولاختصاص الوطء المحظور بما في ما سواه في التكفير .
والوجه الثاني : عليه شاة : لأنه وطء لا يفسد الإحرام ، فوجب أن لا يوجب الفدية كالوطء دون الفرج ، وأما ما يقع به الإحلال الأول والإحلال الثاني فقد تقدم الكلام فيه فلم يحتج إلى إعادته ، فأما إذا وطئ بعد إحلاله الثاني فحجه مجزئ ولا كفارة عليه إجماعا .