[ ص: 377 ] الباب الثاني عشر
في المدينة على مكة فضل
قال صاحب ( المقدمات ) : أجمع أهل العلم على فضلهما على غيرهما ، وعند عبد الوهاب وبعض المالكية : المدينة أفضل من مكة ، وعند ( ش ) و ( ح ) وغيرهما : مكة أفضل ، قال : وهو الأظهر .
واعلم أن الأزمان والبقاع مستوية من حيث هي ، أما الأزمان : فلأنها عند المتكلمين اقترانات الحوادث بعضها ببعض ، ومفهوم الاقتران لا يختلف في ذاته ، وأما البقاع : فلأن الجواهر مستوية ، وإنما الله تعالى فضل بعضها على بعض بأمور خارجة عنها . قاعدة للتفضيل بين جملة المعلومات عشرون سببا : أحدها : بالذات كتفضيل الواجب على الممكن ، والعلم على الجهل ، وثانيها : بالصفة الحقيقية كتفضيل العالم على الجاهل ، وثالثها : بطاعة الله تعالى كتفضيل المؤمن على الكافر ، ورابعها : بكثرة الثواب الواقع في المفضل كتفضيل ليلة القدر ، وخامسها : لشرف الموصوف كالكلام النفسي القديم على غيره من كلام المحدثين ، وسادسها : لشرف الصدور كشرف ألفاظ القرآن لكون الرب تعالى هو المرتب لوصفه ونظامه ، وسابعها : لشرف المدلول كتفضيل الأذكار الدالة على الله تعالى وصفاته العليا وأسمائه الحسنى وثامنها لشرف الدلالة كشرف الحروف الدالة على الأصوات الدالة على كلام الله تعالى ، وتاسعها : بالتعليق كتفضيل العلم على [ ص: 378 ] الحياة ، وإن كانتا صفتي كمال ، وعاشرها : شرف التعلق كتفضيل العلم المتعلق بذات الله تعالى وصفاته على غيره من العلوم ، وكتفضيل الفقه على الطب لتعلقه بوسائله وأحكامه ، وحادي عشرها : كثرة التعلق كتفضيل العلم على القدرة والإرادة ; لتعلق العلم بالواجب والجائز والمستحيل ، واختصاصها بالجائزات ، وكتفضيل الإرادة على القدرة لتناولها الإعدام والإيجاد ، واختصاص القدرة بالإيجاد ، وتفضيل البصر على السمع لتعلقه بسائر الموجودات ، واختصاص السمع بالأصوات والكلام النفساني . وثاني عشرها : بالمجاورة كتفضيل جلد المصحف على سائر الجلود فلا يمس إلا بوضوء ، وثالث عشرها : بالحلول كتفضيل قبره على سائر البقاع ، ورابع عشرها : بالإضافة كقوله تعالى : ( أولئك حزب الله ) [ المجادلة 22 ] وخامس عشرها : بالانتساب كتفضيل ذريته على سائر الذراري ، ونسائه على سائر النساء ، وسادس عشرها : بالثمرة كتفضيل العالم على العابد لإثمار العلم صلاح الخلق بالتعليم والإرشاد ، والعبادة قاصرة على محلها ، وسابع عشرها : بأكثرية الثمرة كتفضيل الفقه على الهندسة ، وثامن عشرها : بالتأثير كتفضيل الحياء على القحة لحثه على ترك القبائح ، وكتفضيل الشجاعة على الجبن لحثه على درء العار ، ونصرة الجار ونصرة الحق ، وتحصيل المصالح ودرء المفاسد ، وتاسع عشرها : بجودة البنية والتركيب كتفضيل الملائكة والجن على بني آدم في أبنيتهم ، والعشرون : باختيار الرب تعالى كتفضيل أحد المتساويين من كل وجه على الآخر ، كتفضيل شاة الزكاة على شاة التطوع ، وحج الفرض على تطوعه ، والقراءة والأذكار في الصلاة على مثلها خارج الصلاة ، ولنقتصر على هذا القدر من الأسباب خشية الإكثار ، ثم هذه الأسباب قد تتعارض فيكون الأفضل من حاز أكثرها وأفضلها ، والتفضيل إنما يقع بين المجموعات ، وقد يختص المفضول ببعض الصفات ، ولا يقدح ذلك في [ ص: 379 ] التفضيل ، كقوله عليه السلام ( أقضاكم علي ، وأقرؤكم أبي ، وأفرضكم زيد ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ) مع فضل الصديق على الجميع ، وكاختصاص سليمان - عليه السلام - بالملك العظيم ، ونوح - عليه السلام - بإنذار نحو ألف سنة وآدم - عليه السلام - بكونه أبا البشر مع تفضيله عليه السلام على الجميع ، فلولا هذه القاعدة لزم التناقض . واعلم أن تفضيل الملائكة والأنبياء عليهم السلام إنما هو بالطاعات ، والأحوال السنيات وشرف الرسالات ، وعظيم المثوبات ، والدرجات العليات فمن كان فيها أتم فهو فيها أفضل إذا تقرر هذا ، ففي ( المقدمات ) : فضل المدينة من وجوه : أحدها : قوله عليه السلام ( المدينة خير من مكة ) وهو نص في الباب ، ويرد عليه أنه مطلق في المتعلق ، فيحتمل أنها خير منها في سعة الرزق والمتاجر فما تعين محل النزاع ، وثانيها : دعاؤه عليه السلام لها بمثل ما دعا به إبراهيم - عليه السلام - لمكة ومثله معه ، ويرد عليه أنه مطلق في المدعو به فيحمل على ما صرح به في الحديث الآخر وهو الصاع والمد ، وثالثها : قوله عليه السلام : ( اللهم إنهم أخرجوني من أحب البقاع إلي ، فأسكني أحب البقاع إليك ) ويرد عليه أن السياق يأبى دخول مكة في المفضل عليه ; لإياسه منها في ذلك الوقت ، فيكون المعنى : فأسكني أحب البقاع إليك ما عداها مع أنه لم يصح ، ولو [ ص: 380 ] صح فهو من مجاز وصف المكان بصفة ما يقع فيه ، كما يقال : بلد طيب أي : هواؤها مع أنه لم يصح ، والأرض المقدسة أي : قدس من دخلها من الأنبياء والأولياء المقدسين من الذنوب والخطايا ، وكذلك الوادي المقدس أي : قدس موسى عليه السلام فيه والملائكة الحالون فيه ، وكذلك وصفه عليه السلام التربة بالمحبة هو وصف لها بما جعله الله تعالى فيها مما يحبه الله ورسوله وهو إقامته ، بها وإرشاد الخلق إلى الحق ، وقد انقضى ذلك التبليغ وتلك القربات ، ورابعها : قوله عليه السلام ( ) ويرد عليه سؤالان : أحدهما أنه يدل على الفضل لا الأفضلية ، وثانيهما أنه مطلق في الزمان فيحمل على زمانه عليه السلام ، والكون معه لنصرة الدين ، ويعضده خروج الصحابة بعده إلى لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة الشام والعراق ، وخامسها : قوله عليه السلام : ( المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها ) أي : يأوي ويرد عليه أن ذلك عبارة عن انسياب المؤمنين لها بسبب وجوده فيها حال حياته فلا عموم له ولا بقاء لهذه الفضيلة لخروج الصحابة منها بعده ، وسادسها : قوله عليه السلام : ( إن الإيمان ليأرز إلى المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ) ويرد عليه أنه محمول على زمانه كما تقدم . إن
وسابعها : قوله عليه السلام : ( ) [ ص: 381 ] ويرد عليه أنه يدل على فضل ذلك الموضع لا ما بين قبري ، ومنبري روضة من رياض الجنة المدينة ، وثامنها : قال القاضي عياض : أجمعت الأمة على أن البقعة الحاوية لأعضائه أفضل البقاع ، قال القاضي عبد الوهاب لما استدل بهذه الأحاديث : إذا ثبت ذلك فتكون الصلاة في مسجدها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ، ويكون الاستثناء في قوله عليه السلام : ( ) معناه أنه أفضل من الصلاة في المسجد الحرام بأقل مما فضل غيره ، وعليه سؤالان أحدهما : لا يلزم من أفضلية البلد على تقدير تسليمها أفضلية الصلاة ، وثانيها : أن في ( التمهيد ) : قال عليه السلام : ( صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ) . صلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف ومائة صلاة فيما سواه
واعلم أن تفضيل الأزمان والبقاع قسمان : دنيوي كتفضيل الربيع على غيره من الأزمان ، وتفضيل بعض البلدان في الثمار والأنهار وطيب الهواء وموافقة الأهواء ، وديني كتفضيل رمضان على الشهور ، وعرفة وعاشوراء ونحوهما ، ومعناه : كثرة جود الله تعالى فيها على عباده ، وكذلك الثلث الأخير من الليل ; لجود الله تعالى بإجابة الدعوات ، ومغفرة الزلات ، وإعطاء السؤال ، ونيل الآمال ، ومن هذا تفضيل مكة والمدينة ، ولوجوه أخرى . وقد مكة بوجوه من التفضيل ، أحدها : وجوب الحج والعمرة على الخلاف ، اختصت والمدينة يندب إتيانها ولا يجب ، وثانيها : فضلت المدينة بإقامته عليه السلام بها بعد النبوة عشر سنين ، وبمكة ثلاث عشرة سنة بعد النبوة . وثالثها : فضلت المدينة بكثرة الطارئين من عباد الله الصالحين ، وفضلت مكة بالطائفين من الأنبياء والمرسلين فما من نبي إلا حجها آدم فمن دونه ، ولو كان لمالك داران فأوجب على عباده أن يأتوا إحداهما ، ووعدهم على ذلك بغفر سيئاتهم ، ورفع درجاتهم دون الأخرى ، لعلم أنها عنده أفضل ، ورابعها : أن التقبيل والاستلام نوع من [ ص: 382 ] الاحترام ، وهما خاصان بالكعبة ، وخامسها : وجوب استقبالها ، وسادسها : تحريم استدبارها لقضاء الحاجة ، وسابعها : تحريمها يوم خلق الله السماوات والأرض ولم تحرم المدينة إلا في زمانه عليه السلام ، وثامنها : كونها مثوى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، وتاسعها : كونها مولد سيد المرسلين ، وعاشرها : لا تدخل إلا بإحرام ، وحادي عشرها : قوله تعالى : ( إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ) [ التوبة 28 ] . وثاني عشرها : الاغتسال لدخولها دون المدينة ، وثالث عشرها : ثناء الله تبارك وتعالى على البيت وهو قوله عز وجل : ( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين فيه آيات بينات ) الآية [ آل عمران 96 ]