اعلم أن أدنى درجات الثلاثة ، المسند بكسر النون ، وهو من يروي [ ص: 30 ] الحديث بإسناده ، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد رواية ، وأما المحدث فهو أرفع منه .
قال الرافعي وغيره : إذا أوصي للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث ، ولا علم لهم بطرقه ولا بأسماء الرواة والمتون ؛ لأن السماع المجرد ليس بعلم .
وقال التاج بن يونس في " شرح التعجيز " : إذا أوصي للمحدث تناول من علم طرق إثبات الحديث وعدالة رجاله ؛ لأن من اقتصر على السماع فقط ليس بعالم .
وكذا قال السبكي في " شرح المنهاج " .
وقال : ذكر القاضي عبد الوهاب عن عيسى بن أبان مالك أنه قال : لا يؤخذ العلم عن أربعة ؛ ويؤخذ عمن سواهم : لا يؤخذ عن مبتدع يدعو إلى بدعته ، ولا عن سفيه يعلن بالسفه ، ولا عمن يكذب في أحاديث الناس ، وإن كان يصدق في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا عمن لا يعرف هذا الشأن .
قال القاضي : فقوله ولا عمن لا يعرف هذا الشأن ، مراده إذا لم [ ص: 31 ] يكن ممن يعرف الرجال من الرواة ، ولا يعرف هل زيد في الحديث شيء أو نقص ؟
وقال الزركشي : أما الفقهاء فاسم المحدث عندهم لا يطلق إلا على من حفظ متن الحديث ، وعلم عدالة رجاله وجرحها ، دون المقتصر على السماع .
وأخرج ابن السمعاني في تاريخه بسنده عن أبي نصر حسين بن عبد الواحد الشيرازي قال : العالم الذي يعرف المتن والإسناد جميعا ، والفقيه الذي عرف المتن ولا يعرف الإسناد ، والحافظ الذي يعرف الإسناد ولا يعرف المتن ، والراوي الذي لا يعرف المتن ولا يعرف الإسناد .
وقال الإمام الحافظ أبو شامة : علوم الحديث الآن ثلاثة :
أشرفها حفظ متونه ومعرفة غريبها وفقهها .
والثاني : حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها ، وهذا كان مهما وقد كفيه المشتغل بالعلم بما صنف فيه وألف فيه من الكتب ، فلا فائدة إلى تحصيل ما هو حاصل .
والثالث : جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه ، والرحلة إلى البلدان ، والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من العلوم النافعة ، فضلا عن العمل به الذي هو المطلوب الأصلي ، إلا أنه لا بأس به لأهل [ ص: 32 ] البطالة لما فيه من بقاء سلسلة الإسناد المتصلة بأشرف البشر .
قال : ومما يزهد في ذلك أن فيه يتشارك الكبير والصغير ، والفدم والباهم ، والجاهل والعالم .
وقد قال : حديث يتداوله الفقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ . الأعمش
ولام إنسان أحمد في حضور مجلس وتركه مجلس الشافعي ، فقال له سفيان بن عيينة أحمد : اسكت فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول ولا [ ص: 33 ] يضرك ، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده . انتهى .
قال شيخ الإسلام : وفي بعض كلامه نظر ؛ لأن قوله : وهذا قد كفيه المشتغل بما صنف فيه قد أنكره العلامة أبو جعفر بن الزبير وغيره ، ويقال عليه : إن كان التصنيف في الفن يوجب الاتكال على ذلك وعدم الاشتغال به ، فالقول كذلك في الفن الأول ، فإن فقه الحديث وغريبه لا يحصى كم صنف فيه ، بل لو ادعى مدع أن التصانيف فيه أكثر من التصانيف في تمييز الرجال ، والصحيح من السقيم لما أبعد ، بل ذلك هو الواقع . فإن كان الاشتغال بالأول مهما فالاشتغال بالثاني أهم ؛ لأنه المرقاة إلى الأول ، فمن أخل به خلط السقيم بالصحيح ، والمعدل بالمجرح ، وهو لا يشعر .
قال : فالحق أن كلا منهما في علم الحديث مهم ، ولا شك أن من جمعهما حاز القدح المعلى مع قصور فيه إن أخل بالثالث ، ومن أخل بهما فلا حظ له في اسم الحفاظ ، ومن أحرز الأول وأخل بالثاني كان بعيدا من اسم المحدث عرفا ، ومن أحرز الثاني وأخل بالأول لم يبعد عنه اسم المحدث ، ولكن فيه نقص بالنسبة إلى الأول ، وبقي الكلام في الفن الثالث ، [ ص: 34 ] ولا شك أن من جمع ذلك من الأولين كان أوفر سهما وأحظ قسما ، ومن اقتصر عليه كان أخس حظا وأبعد حفظا ، فمن جمع الثلاثة كان فقيها محدثا كاملا ، ومن انفرد باثنين منهما كان دونه ، إلا أن من اقتصر على الثاني والثالث فهو محدث صرف ، لا حظ له في اسم الفقيه ، كما أن من انفرد بالأول فلا حظ له في اسم المحدث ، ومن انفرد بالأول والثاني فهل يسمى محدثا ؟ فيه بحث . انتهى .
وفي غضون كلامه ما يشعر باستواء المحدث والحافظ ، حيث قال : فلا حظ له في اسم الحافظ . والكلام كله في المحدث .
وقد كان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى ، كما روى بسنده إلى أبو سعد السمعاني : سمعت أبي زرعة الرازي يقول : من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء لم يعد صاحب حديث . أبا بكر بن أبي شيبة
وفي الكامل من جهة لابن عدي النفيلي ، قال : سمعت هشيما يقول : من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث .
والحق أن الحافظ أخص ، وقال التاج السبكي في كتابه معيد النعم : من الناس فرقة ادعت الحديث فكان قصارى أمرها النظر في مشارق الأنوار للصاغاني . فإن ترفعت
[ ارتقت ] إلى مصابيح البغوي ، وظنت أنها بهذا [ ص: 35 ] القدر تصل إلى درجة المحدثين ، وما ذلك إلا بجهلها بالحديث ، فلو حفظ من ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب وضم إليهما من المتون مثليهما لم يكن محدثا ، ولا يصير بذلك محدثا حتى يلج الجمل في سم الخياط ، فإن رامت بلوغ الغاية في الحديث على زعمها اشتغلت بجامع الأصول لابن الأثير ، فإن ضمت إليه " علوم الحديث " أو مختصره المسمى " بالتقريب والتيسير لابن الصلاح للنووي " ونحو ذلك ، وحينئذ ينادى من انتهى إلى هذا المقام : بمحدث المحدثين وبخاري العصر ، وما ناسب هذه الألفاظ الكاذبة ، فإن من ذكرناه لا يعد محدثا بهذا القدر ، وإنما المحدث من عرف الأسانيد والعلل ، وأسماء الرجال والعالي والنازل ، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون ، وسمع الكتب الستة ، ومسند ، وسنن أحمد بن حنبل البيهقي ، ومعجم ، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثية . هذا أقل درجاته ، فإذا سمع ما ذكرناه وكتب الطباق ودار على الشيوخ وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد كان في أول درجات المحدثين ، ثم يزيد الله من يشاء ما يشاء . الطبراني
وقال في موضع آخر منه : ومن أهل العلم طائفة طلبت الحديث [ ص: 36 ] وجعلت دأبها السماع على المشايخ ومعرفة العالي من المسموع والنازل . وهؤلاء هم المحدثون على الحقيقة ، إلا أن كثيرا منهم يجهد نفسه في تهجي الأسماء والمتون وكثرة السماع من غير فهم لما يقرؤه ، ولا تتعلق فكرته بأكثر من أني حصلت جزء ابن عرفة عن سبعين شيخا ، وجزء الأنصاري عن كذا كذا شيخا .
[ وجزء ابن الفيل ] وجزء البطاقة ، ونسخة ، وأنحاء ذلك ، وإنما كان السلف يستمعون فيقرءون فيرحلون فيفسرون ، ويحفظون فيعملون ، ورأيت من كلام شيخنا أبي مسهر الذهبي في وصية لبعض المحدثين في هذه الطائفة : ما حظ واحد من هؤلاء إلا أن يسمع ليروي فقط ، فليعاقبن بنقيض قصده وليشهرنه الله بعد ستره مرات ، وليبقين مضغة في الألسن ، وعبرة بين المحدثين ثم ليطبعن الله على قلبه ؛ ثم قال : فهل يكون طالب من طلاب السنة يتهاون بالصلوات أو يتعانى تلك العادات ؟ وأنحس منه محدث يكذب في حديثه ويختلق الفشار ، فإن ترقت همته المفتنة إلى الكذب في النقل والتزوير في الطباق فقد استراح ، وإن تعانى سرقة الأجزاء وكشط الأوقاف فهذا لص بسمت محدث ، فإن كمل نفسه بتلوط أو قيادة ، فقد تمت له الإفادة ، وإن استعمل في العلوم فقد ازداد مهانة وخبطا ، إلى أن قال : فهل في مثل هذا الضرب خير ؟ لا أكثر الله منهم . اهـ .
ولبعضهم :
إن الذي يروي ولكنه يجهل ما يروي وما يكتب كصخرة تنبع أمواهها
تسقي الأراضي وهي لا تشرب
إن قليل المعرفة والمخبرة يمشي ومعه أوراق ومحبرة
معه أجزاء يدور بها على شيخ وعجوز لا يعرف ما يجوز مما لا يجوز
ومحدث قد صار غاية علمه أجزاء يرويها عن الدمياطي
وفلانة تروي حديثا عاليا وفلان يروي ذاك عن أسباط
والفرق بين غريبهم وعزيزهم وأفصح عن الخياط والحناط
وابن فلان ما اسمه ومن الذي بين الأنام ملقب بسناط
وعلوم دين الله نادت جهرة هذا زمان فيه طي بساطي
وقال الشيخ فتح الدين بن سيد الناس : وأما المحدث في عصرنا فهو : [ ص: 38 ] من اشتغل بالحديث رواية ودراية ، وجمع رواة ، واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره ، ( وتميز في ذلك حتى عرف فيه حفظه ) واشتهر فيه ضبطه ، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه ، وشيوخ شيوخه ، طبقة بعد طبقة ، بحيث يكون ما يعرفه من كل طبقة أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ ، وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم : كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء ، فذلك بحسب أزمنتهم . انتهى .
وسأل شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر شيخه أبا الفضل العراقي فقال : ما يقول سيدي في الحد الذي إذا بلغه الطالب في هذا الزمان استحق أن يسمى حافظا ؟ وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك لنقص زمانه أم لا ؟
فأجاب : الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظن في وقت ببلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت آخر ، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك . وكلام المزي فيه ضيق ، بحيث لم يسم ممن رآه بهذا الوصف إلا الدمياطي ، وأما كلام أبي الفتح فهو أسهل ، بأن ينشط [ ص: 39 ] بعد معرفة شيوخه إلى شيوخ شيوخه ، وما فوق ، ولا شك أن جماعة من الحفاظ المتقدمين كان شيوخهم التابعين أو أتباع التابعين ، وشيوخ شيوخهم الصحابة أو التابعين ، فكان الأمر في هذا الزمان أسهل باعتبار تأخر الزمان ، فإن اكتفى بكون الحافظ يعرف شيوخه وشيوخ شيوخه ، أو طبقة أخرى ، فهو سهل لمن جعل فنه ذلك دون غيره من حفظ المتون والأسانيد ، ومعرفة أنواع علوم الحديث كلها ، ومعرفة الصحيح من السقيم ، والمعمول به من غيره ، واختلاف العلماء واستنباط الأحكام فهو أمر ممكن بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر ، فإنه يحتاج إلى فراغ وطول عمر ، وانتفاء الموانع . وقد روي عن أنه قال : لا يولد الحافظ إلا في كل أربعين سنة . الزهري
فإن صح كان المراد رتبة الكمال في الحفظ والإتقان ، وإن وجد في زمانه من يوصف بالحفظ . وكم من حافظ غيره أحفظ منه . انتهى .
ومن ألفاظ الناس في معنى الحفظ ، قال : الحفظ : الإتقان ، وقال ابن مهدي أبو زرعة : الإتقان أكثر من حفظ السرد ، وقال غيره : الحفظ : المعرفة .
[ ص: 40 ] قال : سألت عبد المؤمن بن خلف النسفي أبا علي صالح بن محمد قلت : هل يحفظ ؟ قال : لا ، إنما كان عنده معرفة ، قال : قلت : يحيى بن معين فعلي بن المديني كان يحفظ ؟ قال : نعم ويعرف . انتهى .
ومما روي في ، قال قدر حفظ الحفاظ : انتقيت المسند من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث . أحمد بن حنبل
وقال : كان أبو زرعة الرازي يحفظ ألف ألف حديث ، قيل له : وما يدريك ؟ قال : ذاكرته فأخذت عليه الأبواب . أحمد بن حنبل
وقال : كتبت بيدي ألف ألف حديث . يحيى بن معين
وقال : أحفظ مائة ألف حديث صحيح ، ومائتي ألف حديث غير صحيح . البخاري
وقال مسلم : صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة .
[ ص: 41 ] وقال أبو داود : كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث ، انتخبت منها ما ضمنته كتاب السنن .
وقال الحاكم في المدخل : كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث ، سمعت أبا جعفر الرازي يقول : سمعت يقول : كنت عند أبا عبد الله بن وارة إسحاق بن إبراهيم بنيسابور ، فقال رجل من أهل العراق : سمعت يقول : صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر ، وهذا الفتى ، يعني أحمد بن حنبل أبا زرعة ، قد حفظ سبعمائة ألف ، قال البيهقي : أراد ما صح من الأحاديث ، وأقاويل الصحابة والتابعين .
وقال غيره : سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث ، هل يحنث ؟ قال : لا ، ثم قال : أحفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة قل هو الله أحد ؛ وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث .
وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ : كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة [ ص: 42 ] ألف حديث ، وكان يحفظ مائة وأربعين ألفا في التفسير والقراءات .
قال الحاكم : وسمعت الحافظ أبا بكر بن أبي دارم بالكوفة يقول : سمعت أبا العباس أحمد بن محمد بن سعيد يقول : أحفظ لأهل البيت ثلاثمائة ألف حديث ، قال : وسمعت أبا بكر يقول : كتبت بأصابعي عن مائة ألف حديث . مطين
وسمعت أبا بكر المزني يقول : سمعت يقول : سمعت ابن خزيمة يقول : كان علي بن خشرم يملي سبعين ألف حديث حفظا . إسحاق بن راهويه
وأسند عن ابن عدي ابن شبرمة عن قال : ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا ، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته ، فحدثت بهذا الحديث الشعبي فقال : تعجب من هذا ؟ قلت : نعم . قال ما كنت لأسمع شيئا إلا حفظته ، وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث ، أو قال أكثر من سبعين ألف حديث في كتبي . إسحاق بن راهويه
وأسند عن أبي داود الخفاف قال : سمعت يقول : كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي ، وثلاثين ألفا أسردها . إسحاق بن راهويه
[ ص: 43 ] وأسند الخطيب عن محمد بن يحيى بن خالد قال : سمعت يقول : أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها ، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي ، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة . إسحاق بن راهويه
وقال : قال أبي عبد الله بن أحمد بن حنبل لداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع : كان يحدثكم هذه الأحاديث بحفظه ؟ قال نعم ، ما رأيت معه كتابا قط ، قال له لقد كان حافظا ؟ كم كان يحفظ ؟ قال شيئا كثيرا ، قال : أكان يحفظ عشرة آلاف ؟ قال : عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف ، فقال أبي : هذا كان مثل إسماعيل بن عياش . وكيع
وقال : أحفظ خمسة وعشرين ألف حديث بإسناده ولا فخر ، وأحفظ للشاميين عشرين ألف حديث . وقال يزيد بن هارون : كان عند يعقوب الدورقي هشيم عشرون ألف حديث . وقال : كان الآجري يحفظ عشرة آلاف حديث . عبيد الله بن معاذ العنبري