مقدمة ابن قتيبة .
قال الإمام - رحمه الله - تعالى : أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين .
( أما بعد ) أسعدك الله تعالى بطاعته وحاطك بكلاءته ووفقك للحق برحمته وجعلك من أهله فإنك كتبت إلي تعلمني ما وقفت عليه من ثلب أهل الكلام أهل الحديث وامتهانهم وإسهابهم في الكتب بذمهم ورميهم بحمل الكذب ورواية المتناقض حتى وقع الاختلاف وكثرت النحل وتقطعت العصم وتعادى المسلمون وأكفر بعضهم بعضا وتعلق كل فريق منهم لمذهبه بجنس من الحديث : مطاعن المناهضين لأهل الحديث
1 - فالخوارج تحتج بروايتهم ضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم [ ص: 48 ] أبيدوا خضراءهم و و لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم خلاف من خالفهم . من قتل دون ماله فهو شهيد
والقاعد يحتج بروايتهم و عليكم بالجماعة فإن يد الله عز وجل عليها و من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه [ ص: 49 ] و اسمعوا وأطيعوا وإن تأمر عليكم عبد حبشي مجدع الأطراف صلوا خلف كل بر وفاجر ولا بد من إمام بر أو فاجر و كن جليس بيتك فإن دخل عليك فادخل مخدعك فإن دخل عليك فقل بؤ بإثمي وإثمك . وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل
والمرجئ يحتج بروايتهم و من قال لا إله إلا الله فهو في الجنة قيل : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق و من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة ولم تمسه النار . أعددت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي
والمخالف له يحتج بروايتهم [ ص: 50 ] و لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن و لم يؤمن من لم يأمن جاره بوائقه و لم يؤمن من لم يأمن المسلمون من لسانه ويده يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره و يخرج من النار قوم قد امتحشوا فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل أو كما تنبت التغاريز .
5 - والقدري يحتج بروايتهم : وبأن الله تعالى قال : كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه أو ينصرانه . إني خلقت عبادي جميعا حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم
6 - والمفوض يحتج بروايتهم : و اعملوا فكل ميسر لما خلق له [ ص: 51 ] أما من كان من أهل السعادة فهو يعمل للسعادة ومن كان من أهل الشقاء فيعمل للشقاء إن الله تعالى مسح ظهر آدم فقبض قبضتين فأما القبضة اليمنى فقال إلى الجنة برحمتي والقبضة اليسرى فقال إلى النار ولا أبالي هذا وما أشبهه . والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه
7 - والرافضة تتعلق في إكفارها صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بروايتهم و ليردن علي الحوض أقوام ثم ليختلجن دوني فأقول أي ربي أصيحابي أصيحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم ويحتجون في تقديم لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض علي - رضي الله تعالى عنه - بروايتهم هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي و أنت مني بمنزلة فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه [ ص: 52 ] من كنت مولاه وأنت وصيي .
8 - ومخالفوهم يحتجون في تقديم الشيخين رضي الله عنهما بروايتهم أبي بكر وعمر و اقتدوا باللذين من بعدي أبا بكر و يأبى الله ورسوله والمسلمون إلا أبو بكر . خير هذه الأمة بعد نبيها
9 - ويتعلق مفضلو الغنى بروايتهم : اللهم إني أسألك غناي وغنى مولاي اللهم إني أعوذ بك من فقر مرب أو ملب .
10 - ويتعلق مفضلو الفقر بروايتهم : و اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين الفقر بالرجل المؤمن أحسن من العذار الحسن على خد الفرس .
[ ص: 53 ] 11 - ويتعلق القائلون بالبداء - بالبر أنه ينسئ العمر وبالعقوق أنه يخرم العمر - بروايتهم : صلة الرحم تزيد في العمر والصدقة تدفع القضاء المبرم وبقول عمر : ( اللهم إن كنت كتبتني في أهل الشقاء فامحني واكتبني في أهل السعادة ) .
12 - هذا مع روايات كثيرة في الأحكام اختلف لها الفقهاء في الفتيا حتى افترق الحجازيون والعراقيون في أكثر أبواب الفقه وكل يبني على أصل من روايتهم .
قالوا ومع افترائهم على الله تعالى في أحاديث التشبيه كحديث " عرق الخيل " و " زغب الصدر " و " نور الذراعين " و " عيادة الملائكة " و " قفص الذهب على جمل أورق عشية عرفة " و " الشاب القطط ودونه فراش الذهب " و " كشف الساق يوم [ ص: 54 ] القيامة إذا كادوا يباطشونه " و و خلق آدم على صورته وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثندوتي و . قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الله تعالى
ومع روايتهم كل سخافة تبعث على الإسلام الطاعنين وتضحك منه الملحدين وتزهد من الدخول فيه المرتادين وتزيد في شكوك المرتابين كروايتهم في " عجيزة الحوراء إنها ميل في ميل " وفيمن قرأ سورة كذا وكذا ومن فعل كذا كذا أسكن من الجنة سبعين ألف قصر في كل قصر سبعون ألف مقصورة في كل مقصورة سبعون ألف مهاد على كل مهاد سبعون ألف كذا .
وكروايتهم في كما أن الفأرة إنها يهودية وإنها لا تشرب ألبان الإبل اليهود لا تشربها وفي وفي الغراب إنه فاسق السنور إنها عطسة [ ص: 55 ] الأسد والخنزير إنه عطسة الفيل وفي الإربيانة أنها كانت خياطة تسرق الخيوط فمسخت ، وأن الضب كان يهوديا عاقا فمسخ وأن سهيلا كان عشارا باليمن وأن الزهرة كانت بغيا عرجت إلى السماء باسم الله الأكبر فمسخها الله شهابا وأن الوزغة كانت تنفخ النار على إبراهيم وأن العظاية تمج الماء عليه وأن الغول كانت تأتي مشربة أبي أيوب كل ليلة وأن عمر - رضي الله عنه - صارع الجني فصرعه وأن الأرض على ظهر حوت وأن أهل الجنة يأكلون من كبده أول ما يدخلون وأن ذئبا دخل الجنة لأنه أكل عشارا وإذا وقع الذباب في الإناء فامقلوه فإن في أحد جناحيه سما وفي الآخر شفاء وأنه يقدم السم ويؤخر الشفاء مع أشياء كثيرة يطول استقصاؤها . وأن الإبل خلقت من الشيطان
قالوا : ومن عجيب شأنهم أنهم ينسبون الشيخ إلى الكذب ولا يكتبون عنه ما يوافقه عليه المحدثون بقدح يحيى بن معين وأشباههما [ ص: 56 ] ويحتجون بحديث وعلي بن المديني فيما لا يوافقه عليه أحد من الصحابة وقد أكذبه أبي هريرة عمر وعثمان وعائشة ويحتجون بقول وقد أكذبها فاطمة بنت قيس عمر وعائشة وقالوا لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة .
ويبهرجون الرجل بالقدر فلا يحملون عنه كـ " غيلان " وعمرو بن عبيد ومعبد الجهني وعمرو بن فائد ويحملون عن أمثالهم من [ ص: 57 ] أهل مقالتهم كـ " قتادة " وابن أبي عروبة وابن أبي نجيح ومحمد بن المنكدر . وابن أبي ذئب
ويقدحون في الشيخ يسوي بين علي وعثمان أو يقدم عليا عليه ويروون عن صاحب راية المختار وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة جابر الجعفي وكلاهما يقول بالرجعة .
قالوا : وهم مع هذا أجهل الناس بما يحملون وأبخس الناس حظا فيما يطلبون وقالوا في ذلك :
[ ص: 58 ]
زوامل للأشعار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا
بأحماله أو راح ما في الغرائر
وقال : وما ظنكم برجل منهم يحمل عنه العلم وتضرب إليه أعناق المطي خمسين سنة أو نحوها سئل في ملأ من الناس عن فأرة وقعت في بئر فقال : " " وآخر سئل عن قوله تعالى : البئر جبار ريح فيها صر فقال : هو هذا الصرصر يعني صراصر الليل .
وآخر حدثهم عن سبعة وسبعين ويريد شعبة وسفيان وآخر روى لهم يستر المصلي مثل آجرة الرجل يريد مثل آخرة الرحل [ ص: 59 ] وسئل آخر : متى يرتفع هذا الأجل ؟ فقال : إلى قمرين ، يريد إلى شهري هلال . وقال آخر : يدخل يده في فيه فيقضمها قضم الفجل ، يريد قضم الفحل .
وقال آخر أجد في كتابي الرسول ولا أجد الله ، يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال المستملي : اكتبوا : وشك في الله تعالى ، مع أشياء كثيرة يطول تعدادها .
قالوا : وكلما كان المحدث أموق كان عندهم أنفق ، وإذا كان كثير اللحن والتصحيف كانوا به أوثق ، وإذا ساء خلقه وكثر غضبه واشتدت حدته وعسر في الحديث تهافتوا عليه ولذلك كان يقلب الفرو ويلبسه ويطرح على عاتقه منديل الخوان ، وسأله رجل عن إسناد حديث فأخذ بحلقه وأسنده إلى الحائط وقال : هذا إسناده ، وقال : إذا رأيت الشيخ لم يطلب الفقه أحببت أن أصفعه مع حماقات كثيرة تؤثر عنه لا نحسبه كان يظهرها إلا لينفق بها عندهم . الأعمش
قال أبو محمد : هذا ما حكيت من طعنهم على أصحاب الحديث وشكوت تطاول الأمر بهم على ذلك من غير أن ينضح عنهم ناضح ، [ ص: 60 ] ويحتج لهذه الأحاديث محتج أو يتأولها متأول حتى أنسوا بالعيب ورضوا بالقذف وصاروا بالإمساك عن الجواب كالمسلمين وبتلك الأمور معترفين ، وتذكر أنك وجدت في كتابي المؤلف في غريب الحديث بابا ذكرت فيه شيئا من المتناقض عندهم وتأولته فأملت بذلك أن تجد عندي في جميعه مثل الذي وجدته في تلك من الحجج وسألت أن أتكلف ذلك محتسبا للثواب .
فتكلفته بمبلغ علمي ومقدار طاقتي ، وأعدت ما ذكرت في كتبي من هذه الأحاديث ليكون الكتاب تاما جامعا للفن الذي قصدوا الطعن به . وقدمت - قبل ذكر الأحاديث وكشف معانيها - وصف أصحاب الكلام وأصحاب الحديث بما أعرف به كل فريق .
وأرجو أن لا يطلع ذو النهى مني على تعمد لتمويه ولا إيثار لهوى ولا ظلم لخصم . وعلى الله أتوكل فيما أحاول وبه أستعين .