فمن الأول : ( وهم ) باعتبار سبقهم إلى الإسلام أو الهجرة أو شهود المشاهد الفاضلة ( طباق إن يرد تعديد ) ; أي : عدها . واختلف في مقداره ، فـ ( قيل ) كما للحاكم في ( علوم الحديث ) : هي ( اثنتا عشرة ) طبقة . فالأولى : من تقدم إسلامه بمكة ; كالخلفاء الأربعة . الثانية : أصحاب دار الندوة التي خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها بعد أن أظهر إسلامه ، فبايعوه حينئذ فيها . الثالثة : المهاجرة إلى عمر بن الخطاب الحبشة . الرابعة : مبايعة العقبة الأولى . الخامسة : أصحاب العقبة الثانية ، وأكثرهم من الأنصار . السادسة : المهاجرون الذين وصلوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقباء قبل أن يدخل المدينة ويبني المسجد . السابعة : أهل بدر . الثامنة : المهاجرة بين بدر والحديبية . التاسعة : أهل بيعة الرضوان . العاشرة : المهاجرة بين الحديبية وفتح مكة . الحادية عشر : مسلمة الفتح . الثانية عشر : صبيان وأطفال رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح وفي حجة الوداع وغيرهما ، يعني من عقل منهم ومن لم يعقل .
[ ص: 113 ] وقيل كما لابن سعد في ( الطبقات ) له : خمس . فالأولى : البدريون . الثانية : من أسلم قديما ممن هاجر عامتهم إلى الحبشة ، وشهدوا أحدا فما بعدها . الثالثة : من شهد الخندق فما بعدها . والرابعة : مسلمة الفتح فما بعدها . الخامسة : الصبيان والأطفال ممن لم يغز ، سواء حفظ عنه - وهم الأكثر - أم لا . ( أو تزيد ) على الاثنتي عشرة ، فضلا عما دونها .
ومن الثاني : ( والأفضل ) منهم مطلقا بإجماع أهل السنة خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، بل هو أبو بكر ( الصديق ) ; لأدلة يطول ذكرها ، منها أفضل الناس بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قوله - صلى الله عليه وسلم - وقد رآه يمشي بين يديه : ( يا لأبي الدرداء ، أتمشي أمام من هو خير منك في الدنيا والآخرة ، ما طلعت شمس ولا غربت على أحد بعد النبيين أفضل من أبا الدرداء أبي بكر ) . وقيل له : الصديق ; لمبادرته إلى تصديق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الناس كلهم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( ما دعوت أحدا إلى الإيمان إلا كانت له كبوة إلا أبا بكر ; فإنه لم يتلعثم ) .
واعلم أنه بمقتضى ما قررناه في تعريف الصحابي يلغز فيقال لنا : صحابي أفضل منه ، وهو عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام . وإليه أشار التاج السبكي بقوله في قصيدته التي في أواخر القواعد .
[ ص: 114 ]
من باتفاق جميع الخلق أفضل من خير الصحاب أبي بكر ومن عمر ومن علي ومن عثمان وهو فتى
من أمة المصطفى المختار من مضر
وأسند البيهقي في الاعتقاد له عن أنه أيضا قال : ما اختلف أحد من الصحابة والتابعين في تفضيل الشافعي أبي بكر وعمر وتقديمهما على جميع الصحابة . وكذا جاء عن أنه قال : من أدركت من الصحابة والتابعين لم يختلفوا في يحيى بن سعيد الأنصاري أبي بكر وعمر وفضلهما .
وقال مالك رحمه الله كما سيأتي : أوفي ذلك شك ؟ ! ( وبعده ) ; أي : بعد عمر ، إما ، ( وهو الأكثر ) ; أي : قول الأكثر من ( عثمان ) بن عفان أهل السنة ، كما حكاه الخطابي وغيره ، وأن ترتيبهم في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة . ( أو ( قبله ) ; أي : قبل فعلي ) هو ابن أبي طالب عثمان وبعد عمر ، ( خلف ) ; أي : خلاف ( حكي ) . وإلى القول بتقديم علي ذهب أهل الكوفة وجمع ، كما قاله الخطابي وطائفة قبله وبعده ، كما نقله شيخنا . وابن خزيمة
وروى الخطابي عن حكايته عن الثوري أهل السنة من أهل الكوفة ، وأن أهل السنة من أهل البصرة على الأول ، فقيل : فما تقول أنت ؟ قال : أنا رجل كوفي . ثم قال للثوري الخطابي : لكن قد ثبت عن في آخر قوليه تقديم الثوري عثمان . زاد غيره : ونقل مثله عن صاحبه . قال وكيع ابن كثير : وهو - أي : هذا المذهب - ضعيف مردود وإن نصره ابن خزيمة والخطابي . وقد قال : من قدم الدارقطني عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار . وسبقه إليه كما حكيته في الثامنة في [ ص: 115 ] إحصائهم . الثوري
وصدق - رحمه الله - وأكرم مثواه ; فإن عمر لما جعل الأمر من بعده شورى بين ستة انحصر في عثمان وعلي ، فاجتهد فيهما ثلاثة أيام بلياليها ، حتى سأل النساء في خدورهن والصبيان في المكاتب ، فلم يرهم يعدلون عبد الرحمن بن عوف بعثمان أحدا ، فقدمه على علي ، وولاه الأمر قبله . قال : ( كنا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل ابن عمر بأبي بكر أحدا ، ثم عمر ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا نفاضل بينهم ) . وعن
وفي لفظ ، وقال : إنه صحيح غريب : للترمذي بكر وعمر وعثمان ) . ( كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي : أبو
وفي آخر عند وغيره مما هو أصرح مع ما فيه من اطلاعه - صلى الله عليه وسلم - : الطبراني أبو بكر وعمر وعثمان ، فيسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره ) . ( كنا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي : أفضل هذه الأمة بعد نبيها
قال الخطابي : وجه ذلك أنه أراد به الشيوخ وذوي الأسنان منهم ، الذين كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حركه أمر شاورهم فيه ، وكان علي في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدث السن . ولم يرد الإزراء ابن عمر بعلي ولا تأخره ودفعه عن الفضيلة بعد عثمان ، ففضله مشهور لا ينكره ولا غيره من الصحابة ، وإنما اختلفوا في تقديم ابن عمر عثمان عليه . انتهى .
وإلى القول بتفضيل عثمان ذهب الشافعي وأحمد ، كما رواه البيهقي في اعتقاده عنهما ، وحكاه عن إجماع الصحابة والتابعين ، وهو المشهور عن الشافعي مالك وكافة أئمة الحديث والفقه وكثير من المتكلمين كما قال القاضي [ ص: 116 ] والثوري عياض . وإليه ذهب أبو الحسن الأشعري ، ولكنهما اختلفا في التفضيل ، أهو قطعي أو ظني ؟ فالذي مال إليه والقاضي أبو بكر الباقلاني الأشعري أنه قطعي ، وعليه يدل قول مالك الآتي نقله من ( المدونة ) . والذي مال إليه الباقلاني واختاره إمام الحرمين في ( الإرشاد ) الثاني ، وعبارته : لم يقم عندنا دليل قاطع على تفضيل بعض الأئمة على بعض ; إذ العقل لا يشهد على ذلك ، والأخبار الواردة في فضائلهم متعارضة ، ولا يمكن تلقي التفضيل من منع إمامة المفضول .
ولكن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل الخلائق بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم عمر أفضلهم بعده ، وتتعارض الظنون في عثمان وعلي . وبكونه ظنيا جزم صاحب ( المفهم ) .
( قلت : وقول الوقف ) عن تفضيل أحدهما على الآخر ( جا ) بالقصر ( عن مالك ) حسبما عزاه المازري لنص ( المدونة ) ، يعني في آخر الديات منها ، وأنه سئل : أي الناس أفضل بعد نبيهم ؟ فقال : أبو بكر .
زاد عياض فيما عزاه إليها : ثم عمر . ثم قال فيما اتفقا عليه : أوفي ذلك شك ؟ قيل له : فعلي وعثمان ؟ قال : ما أدركت أحدا ممن أقتدي به يفضل أحدهما على صاحبه ، ونرى الكف عن ذلك . وتبعه جماعة ; منهم ، ومن المتأخرين يحيى القطان . وقول إمام الحرمين الماضي : وتتعارض الظنون في ابن حزم عثمان وعلي ، يميل أيضا إلى التوقف . لكن قد حكى عياض أيضا قولا عن مالك بالرجوع عن الوقف إلى تفضيل عثمان . قال القرطبي : وهو الأصح إن شاء الله . قال عياض : ويحتمل أن يكون كفه وكف من اقتدى به لما كان شجر في ذلك من الاختلاف والتعصب . بل حكى المازري قولا بالإمساك عن التفضيل مطلقا ، وعزاه الخطابي لقوم ، وحكى هو قولا آخر بتقديم أبي بكر من جهة الصحابة ، وعلي من جهة القرابة ، قال : وكان [ ص: 117 ] بعض مشايخنا يقول : أبو بكر خير ، وعلي أفضل . قال المصنف : وهذا تهافت في القول . ووجهه بعضهم فقال : يمكن حمل الأفضلية على العلم ، فلا تهافت ، خصوصا وقد مشى عليه المؤلف ، لكن في التابعين كما سيأتي ، حيث وجه قول أحمد بتفضيل مع النص في ابن المسيب أويس بقوله : فلعله أراد بالأفضلية في العلم ، لا الخيرية ، كما سلكه بعض شيوخ الخطابي . انتهى .
وبقية كلام الخطابي : وباب الخيرية غير باب الفضيلة ، قال : وهذا كما تقول : إن الحر الهاشمي أفضل من العبد الرومي أو الحبشي ، وقد يكون العبد الحبشي خيرا من هاشمي في معنى الطاعة والمنفعة للناس ، فباب الخيرية متعد ، وباب الفضيلة لازم ، ونحوه من كان يقدم عليا لفضيلته وفضل أهل بيته ، مع اعترافه بفضل الشيخين ; ; فإنه قال : لو أتاني كأبي بكر بن عياش أبو بكر وعمر وعلي لبدأت بحاجة علي قبلهما ; لقرابته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولأن أخر من السماء إلى الأرض أحب إلي من أن أقدمه عليهما .
وكما حكي عن ; ولذا قال أبي الطفيل عامر بن واثلة : كانت ابن عدي الخوارج يرمونه باتصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته . وكذا قال : إنه كان يعترف بفضل ابن عبد البر أبي بكر وعمر ، لكنه يقدم عليا . وقد قال السراج : ثنا خشيش الصوفي ، ثنا قال : كان رأي زيد بن الحباب رأي أصحابه الكوفيين ، يفضل سفيان الثوري عليا على أبي بكر وعمر ، فلما صار إلى البصرة رجع وهو يفضل عمر على علي ، ويفضله على عثمان . أخرجه أبو نعيم في ترجمة من ( الحلية ) . وكذا حكى الثوري المازري عن [ ص: 118 ] الشيعة تفضيله ، وعن الخطابية تفضيل عمر ، وعن الراوندية تفضيل العباس ، أن والقاضي عياض وطائفة ذهبوا إلى أن من توفي من الصحابة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - أفضل ممن بقي بعده ; لقوله - صلى الله عليه وسلم - في بعضهم : ( أنا شهيد على هؤلاء ) ، وعين بعضهم ; منهم ابن عبد البر . وكل هذا مردود بما تقدم من حكاية إجماع الصحابة والتابعين على أفضلية جعفر بن أبي طالب أبي بكر وعمر على سائر الصحابة ، ثم عثمان ثم علي ، وهو المذكور في المجامع والمشاهد وعلى المنابر . ولبعضهم :
أبو بكر على السنه
وفاروق فتى الجنه وعثمان به المنه
علي حبه جنه
ولذا قال شيخنا عقب القول بتفضيل عمر تمسكا بالحديث في المنام الذي فيه في حق أبي بكر وفي نزعه ضعف ما نصه : وهو تمسك واه . وعقب القول بتفضيل العباس أنه مرغوب عنه ، ليس قائله من أهل السنة ، بل ولا من أهل الإيمان . وقال النووي عقب آخرها : وهذا الإطلاق غير مرضي ولا مقبول .
وقد روى البيهقي في ( الدلائل ) وغيره من طريق قال : ذكر رجال على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ابن سيرين عمر ، فكأنهم فضلوه على أبي بكر ، فبلغ ذلك عمر ، يعني بعد موته - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : والله وددت لو أن عملي كله مثل عمله يوما واحدا من أيامه وليلة واحدة من لياليه ، أما ليلته فذكر قصة الغار ، وأما يومه فذكر الردة .
وثبت عن ، كما في علي بن أبي طالب وغيره ، أنه قال : خير الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البخاري أبو بكر ، ثم عمر ، ثم رجل آخر . فقال له ابنه : ثم أنت يا أبت ؟ فقال : ما أنا إلا رجل من المسلمين . ولأجل هذا قال محمد ابن الحنفية أبو الأزهر : سمعت [ ص: 119 ] عبد الرزاق يقول : أفضل الشيخين بتفضيل علي إياهما على نفسه ، ولو لم يفضلهما ما فضلتهما ، كفى بي إزراء أن أحب عليا ثم أخالف قوله .
ولا يخدش في ذلك ما أخرجه الترمذي ، وقال : إنه حسن صحيح ، وصححه وغيره من حديث ابن حبان أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أبي ، وأفرضهم ، وأعلمهم بالحلال والحرام زيد بن ثابت معاذ بن جبل ) . أرحم أمتي بأمتي
وكذا ما أخرجه الترمذي أيضا والنسائي وغيرهم من حديث وابن ماجه حبشي بن جنادة رضي الله عنه مرفوعا : ( علي مني ، وأنا من علي ، لا يؤدي عني إلا أنا أو علي ) . وأخرجه الترمذي وغيره من حديث علي ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( وعلي بابها ) . فما انفرد به أنا دار الحكمة ، أعلى وأغلى وأشمل وأكمل ، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء . وقد قال الصديق حسبما أورده بكر بن عبد الله المزني في ( نوادر الأصول ) له عنه ، بل أورده الحكيم الترمذي في العلم من ( الإحياء ) مرفوعا : ( الغزالي ما فضل أبو بكر الناس بكثرة صلاة ولا بكثرة صيام ، ولكن بشيء وقر في قلبه ) .
واعلم أنه قد أفرد مناقب أبي بكر وعمر أبو جعفر الطبري ، ومن المتأخرين وأسد بن موسى المحب الطبري . ومناقب أبي بكر وحده أبو طالب العشاري وابن كثير ، وهي في مجلد لطيف من تاريخ . ابن عساكر ولأبي بكر جعفر بن محمد [ ص: 120 ] الفريابي جزء فيه سوابق وفضائله ، وما خصه الله به دون سائر المسلمين . الصديق وعمر وحده أبو عمر عبد الله بن أحمد بن ذي زيل الدمشقي الحنبلي ، . ومناقب وابن الجوزي عثمان ابن حبيب . ومناقب علي في ( الخصائص ) . ومناقب الخلفاء الأربعة النسائي ابن زنجويه وأبو نعيم ، في الآخرين لكل منهم . وفضائل العشرة المحب الطبري . وفضائل الصحابة مطلقا ، أسد بن موسى وبكر القاضي ، ، وأبو سعيد بن الأعرابي قاضي وأبو المطرف عبد الرحمن بن فطيس قرطبة ، وهو في مائتين وخمسين جزءا حديثية . وهذا باب لا انتهاء له .
( فـ ) يلي الخلفاء الأربعة ( الستة الباقون ) من ، وهم : العشرة الذين بشرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة طلحة ، والزبير ، وسعد ، وسعيد ، ، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين . وأبو عبيدة بن الجراح
وقد نظمهم شيخنا مع الأربعة في بيت مفرد لم يسبق إليه ، فقال فيما أنشدنيه غير مرة :
لقد بشر الهادي من الصحب زمرة بجنات عدن كلهم فضـله اشتهر
سعيد ، زبير ، سعد ، طلحة ، عامر أبو بكر ، عثمان ، ابن عوف ، علي ، عمر
خيار عباد الله بعد نبيهم هم العشر طرا بشروا بجنان
زبير ، وطلح ، وابن عوف ، وعامر وسعدان والصهران والختنان
قال العلماء : والترجي في كلام الله وكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوقوع . ويتأيد بوقوعه بالجزم في بعض الروايات أن الله اطلع على أهل بدر فقال . . . . . وذكره . وفي حديث آخر : ( ) . لن يدخل النار أحد شهد بدرا
( فـ ) يليهم ( أحد ) ; أي : أهل أحد الذين شهدوها . وكانوا فيما قاله عروة حين خروجهم ألفا ، فرجع عبد الله بن أبي بثلاثمائة ، وبقي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - سبعمائة ، استشهد منهم الكثير . ( فـ ) يليهم ( البيعة المرضيه ) ; أي : أهل بيعة الرضوان بالحديبية التي نزل فيها : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) الآية [ الفتح : 18 ] .
وقد قال في أواخر خطبة الاستيعاب : وليس في غزواته ما يعدل بها - يعني بدرا - في الفضل ويقرب منها إلا غزوة ابن عبد البر الحديبية ، حيث كانت بيعة الرضوان ، وكانوا ألفا وأربعمائة على المعتمد ، وقال لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( ) . أنتم خير أهل الأرض
( قال ) : ( وفضل السابقين ) الأولين من ابن الصلاح المهاجرين والأنصار ( قد ورد ) في القرآن إيماء لا نصا . نعم ، النص الصريح في تفضيل من أنفق من قبل الفتح وقاتل . وقد اختلف في السابقين ( فقيل ) كما قال : ( هم ) ; أي : الذين شهدوا بيعة الرضوان عام الشعبي الحديبية ، رواه سنيد وعبد في تفسيره بسند صحيح عنه . ( وقيل ) كما قال محمد بن كعب القرظي : ( بدري ) ; أي : أهل بدر . حكاه وعطاء بن يسار عن ابن عبد البر بسند ضعيف إليهما . ( وقد قيل : بل اهل ) بالنقل ( القبلتين ) الذين صلوا إليهما مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قاله سنيد . ورواه أبو موسى الأشعري سنيد وعبد أيضا بسند صحيح عن [ ص: 122 ] سعيد بن المسيب وابن سيرين وقتادة . وهو عند عبد الرزاق في تفسيره ، ومن طريقه عبد عن قتادة وحده . وكذا روي عن الحسن . بل عن الحسن كما رواه بسند صحيح عنه أنهم الذين كان إسلامهم قبل فتح سنيد مكة .
وصحح بعض المتأخرين أنهم الذين آمنوا وهاجروا قبل بيعة الرضوان وصلح الحديبية ; لقوله تعالى : ( لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ) الآية [ الحديد : 10 ] قال : والفتح هو صلح الحديبية على الأرجح ، وفيها نزلت : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) [ الفتح : 1 ] ; ولذا لما سئل ابن تيمية عن المفاضلة بين العباس وبلال رضي الله عنهما ، قال : بلال وأمثاله من السابقين الأولين أفضل من العباس وأمثاله من التابعين له بإحسان ; لأنه قيد التابعين بشرط الإحسان .
والحاصل أن من قاتل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أو في زمانه بأمره ، أو أنفق شيئا من ماله بسببه ، لا يعدله في الفضل أحد بعده كائنا من كان . ولكن لم يوافق ابن تيمية على أفضلية بلال مع قول : كان أبي سفيان بن الحارث العباس أعظم الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والصحابة يعترفون للعباس بفضله ، ويشاورونه ويأخذون برأيه ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( ) ، إلى غير ذلك من المناقب المفردة في عدة تآليف ; كاستسقاء عم الرجل صنو أبيه عمر به رضي الله عنهما ، وإن كان إنما أسلم وهاجر قبيل الفتح ، وكم له رضي الله عنه من مآثر حسنة قبل إسلامه .
وروى وغيره عن ابن جرير قال : ( مر محمد بن كعب القرظي عمر برجل يقرأ : [ ص: 123 ] ( والسابقون ) الآية . فأخذ بيده فقال : من أقرأك هذا ؟ فقال : ، فقال : لا تفارقني حتى أذهب بك إليه . فلما جاءه قال له أبي بن كعب عمر : أأنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا ؟ قال : نعم ، قال : سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : نعم ، قال : لقد كنت أرى أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحد بعدنا . فقال أبي : تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة : ( وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ) ، وفي سورة الحشر : ( والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) ، وفي الأنفال : ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) الآية .
( و ) العاشرة : في أولهم إسلاما وآخرهم موتا . فأما الأول فـ ( اختلف أيهم ) بالنصب ( أسلم قبل من سلف ) ; أي : اختلف السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم في ، على أقوال . ( فقيل ) كما أي الصحابة أول إسلاما لابن عباس والنخعي وغيرهما ممن سأحكي عنه : ; لقوله كما في ( أبو بكر ) الصديق الترمذي من حديث عنه : ( ألست أول من أسلم ) . أبي سعيد الخدري حين سأله من معك على هذا الأمر : ( حر وعبد ) ; يعني لعمرو بن عبسة أبا بكر وبلالا . ولقول ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن ذلك : أما سمعت قول الشعبي حسان :
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
خـير البرية أتقـاها وأعدلها بعـد النبي وأوفاها بما حملا
والثاني والتالي المحمود مشهده وأول الناس منهم صدق الرسلا
[ ص: 124 ]
وسميت صديقا وكل مهاجر سواك يسمى باسمه غير منكر
سبقت إلى الإسلام والله شاهد وكنت جليسا في العريش المشهر
سبقتكم إلى الإسلام طرا صغيرا ما بلغت أوان حلمي
ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتهـم وأعلم النـاس بالفرقان والسنن
قل لابن ملجم والأقدار غالبة هدمت ويلك للإسلام أركانا
قتلت أفضل من يمشي على قدم وأول الناس إسلاما وإيمانا
فأول من ضل في موقف يصلي مع الطاهر الطيب
( وقيل ) حسبما ذكره معمر عن : أولهم إسلاما الزهري ، ( وادعى ) حال كونه ( وفاقا ) ; أي : موافقا لمن سبقه إلى مطلق القول به ; ( زيد ) هو ابن حارثة كقتادة وابن إسحاق صاحب ( المغازي ) . بل روي عن أيضا ابن عباس وعائشة والزهري ( بعض ) ; ونافع بن جبير بن مطعم كابن عبد البر والثعلبي ، ( على ) أم المؤمنين في أنها أول الخلق إسلاما ( اتفاقا ) . زاد خديجة الثعلبي : وإن الاختلاف إنما هو فيمن بعدها . وزاد حكاية الاتفاق على أن إسلام علي بعدها . ابن عبد البر
قال ابن كثير : وكونها أول الناس إسلاما هو ظاهر السياقات في أول البعثة . وقال النووي : إنه الصواب عند جماعة المحققين .
وجمع بين الاختلاف في ذلك بالنسبة إلى ابن عبد البر أبي بكر وعلي بأن الصحيح أن أبا بكر أول من أظهر إسلامه ، ثم روي عن أن [ ص: 126 ] محمد بن كعب القرظي عليا أخفى إسلامه من أبيه أبي طالب ، وأظهر أبو بكر إسلامه ; ولذلك شبه على الناس . ونحوه قول شيخنا في قول عمار : ( وأبو بكر ) ، مراده ممن أظهر إسلامه ، وإلا فقد كان حينئذ جماعة ممن أسلم ، لكنهم كانوا يخفونه من أقاربهم . رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان
وكذا قال : أول من آمن ابن إسحاق ، ثم خديجة علي . قال : فكان أول ذكر آمن ، وهو ابن عشر سنين ، ثم زيد ، فكان أول ذكر أسلم بعد علي ، ثم أبو بكر فأظهر إسلامه ودعا إلى الله ، فأسلم بدعائه عثمان والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة ، فكأن هؤلاء النفر الثمانية أسبق الناس بالإسلام . وقيل فيما نقله أبو الحسن المسعودي عن بعضهم : أولهم إسلاما بلال ; لحديث الماضي . عمرو بن عبسة
وقد جمع بين هذه الأقوال فقال : والأورع أن يقال : أول من أسلم من الرجال الأحرار ابن الصلاح أبو بكر ، ومن الصبيان علي ، ومن النساء ، ومن الموالي خديجة زيد ، ومن العبيد بلال . وهو أحسن ما قيل ; لاجتماع الأقوال به . على أنه قد سبق به ما عدا بلالا ، فذكر ابن قتيبة أن ذكر الاختلاف في أول من أسلم ، فقال : الخبر في كل ذلك صحيح ، أما أول من أسلم من النساء إسحاق ابن راهويه فخديجة ، وأما أول من أسلم من الرجال فأبو بكر ، وأما أول من أسلم من الموالي فزيد ، وأما أول من أسلم من الصبيان فعلي .
وكذا جاء بدونه وبدون [ ص: 127 ] زيد أيضا عن أبي حنيفة ، فروى الحاكم في ترجمة أحمد بن عباس بن حمزة الواعظ من تاريخ نيسابور من طريق : ثنا أبي مسهر قال : كان سعيد بن عبد العزيز أبو حنيفة يقول : أول من أسلم من الرجال أبو بكر ، ومن النساء ، ومن الصبيان خديجة علي . وكان البرهان التنوخي يقول : الأولى أن يقال : ومن غير البالغين علي ، وهو حسن .
وفي المسألة أقوال أخر ، فعند عن عمر بن شبة قال : أسلمت قبل خالد بن سعيد بن العاص علي ، لكني كنت أفرق أبا أحيحة ، يعني والده ، وكان لا يفرق أبا طالب . وعن أن إسلام ضمرة بن ربيعة خالد كان مع إسلام أبي بكر .
في ( الأفراد ) بسند ضعيف من طريق ابنته وللدارقطني أم خالد قالت : ( أبي أول من أسلم ) . لكن في رواية عنها : ( كان أبي خامسا ، سبقه أبو بكر وعلي وزيد بن حارثة ) . وسعد بن أبي وقاص
وعن بعضهم كما حكاه المسعودي : أولهم ، وكأنه تمسك بما قيل : إنه أول من أظهر إسلامه . لكن روى خباب بن الأرت الباوردي أنه أسلم سادس ستة . وعن ابن قتيبة فيما نقله الماوردي في ( أعلام النبوة ) له : أولهم أبو بكر بن أسعد الحميري . ويحتاج هذا النقل إلى تحرير . ونقل ابن سبع في الخصائص النبوية عن قال : ( كنت أولهم إسلاما ) . وهو غريب . والمعروف من هذا كله الأول ، لكن قال المصنف في ( التقييد ) : ينبغي أن يقال : أول من آمن من [ ص: 128 ] الرجال عبد الرحمن بن عوف ورقة ، يعني بناء على ذكر ابن منده وغيره له في الصحابة .