( وإني إذا نسبت الحديث ) أي : كل حديث ( إليهم ) أي : إلى بعض الأئمة المذكورين المعروفة كتبهم بأسانيدهم بين العلماء المشهورين ( كأني أسندت ) أي : الحديث برجاله ( إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أي : فيما إذا كان الحديث مرفوعا ، وهو الغالب ، وإلى أصحابه إذا كان موقوفا ، وهو المرفوع حكما ; ( لأنهم ) أي : الأئمة ( قد فرغوا منه ) أي : من الإسناد الكامل بذكرهم . قال ابن حجر أي : من الإسناد المفهوم من أسندت على حد : ( وأن تعفوا أقرب للتقوى ) . اهـ . ولا يخفى أن قوله : ( وأن تعفوا ) بتأويل المصدر مبتدأ خبره أقرب للتقوى ، والتقدير : وعفوكم أقرب للتقوى نحو ( وأن تصوموا خير لكم ) فالصواب أنه على حد : اعدلوا أقرب للتقوى ، ثم في أصله على حد : وأن تعفوا هو أقرب ، وهو إما سهو من الكتاب ، أو وهم من مصنف الكتاب ، والله أعلم بالصواب . ( وأغنونا ) : بهمزة قطع ، أي : ، وجعلونا في غنى ، وكفاية ( عنه ) أي : عن تحقيق الإسناد من وصله ، وقطعه ، ووقفه ، ورفعه ، وضعفه ، وحسنه ، وصحته ، ووضعه ; ومن ثم لزم الأخذ بنص أحدهم على صحة السند ، أو الحديث ، أو على حسنه ، أو ضعفه ، أو وضعه ، فعلم من كلام المصنف أنه يجوز نقل الحديث من الكتب المؤلفة المعتمدة التي اشتهرت ، أو صحت نسبتها لمؤلفيها كالكتب الستة ، وغيرها من الكتب المؤلفة ، وسواء في جواز نقله مما ذكر أكان نقله للعمل بمضمونه ، ولو في الأحكام ، أو للاحتجاج ، ولا يشترط تعدد الأصل المنقول منه ، وما اقتضاه كلام من اشتراطه حملوه على الاستحباب ، والاستظهار ، ولكن يشترط في ذلك الأصل أن يكون قد قوبل على أصل معتمد مقابلة صحيحة ; لأنه حينئذ يحصل به الثقة التي مدار الاعتماد عليها صحة ، واحتجاجا ، نعم ، نسخ ابن الصلاح مختلفة كثيرا في الحكم على الحديث بل ، وسنن الترمذي أبي داود أيضا ، فلا بد من المقابلة على أصول معتمدة منهما ، وعلم من كلام المصنف أيضا أنه لا يشترط في النقل من الكتب المعتمدة للعمل والاحتجاج أن يكون له به رواية إلى مؤلفيها ; ومن ثم قال ابن برهان : ذهب الفقهاء كافة إلى أنه لا يتوقف العمل بالحديث على سماعه بل إذا صحت عنده النسخة من السنن جاز له العمل بها ، وإن لم يسمع ، وشذ بعض المالكية ، فقال : اتفق العلماء على أنه لا يصح لمسلم أن يقول : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذا ، حتى يكون عنده ذلك القول مرويا ، ولو على أقل وجوه الروايات ; لقوله - عليه الصلاة والسلام - : ( ) ، وفي رواية : بحذف متعمدا ، وتبعه الحافظ من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار الزين العراقي فإنه بعد أن قرر أنه يقبح للطالب أن لا يحفظ بإسناده عدة أحاديث يتخلص بها عن كذا ، وعن كذا . قال : ويتخلص به من الجرح بنقل ما ليست له به رواية ; فإنه غير سائغ بإجماع أهل الدراية . وانتصر جماعة للأول ، وقد يجمع بين الإجماعين المتعارضين بحمل الأول على ما إذا نظر في الأصل المعتمد ، وأخذ منه الحديث للعمل ، أو الاحتجاج [ ص: 33 ] والثاني : على ما إذا حدث بأحاديثها موهما نسبتها إليه قراءة ، وإسنادا فهذا لا يجوز لما فيه من مزيد التغرير . وبهذا اندفع ما أورد على الثاني من أنه يلزم عليه منع إيراد ما في الصحيحين ، أو أحدهما لمن لا رواية له به ، وجواز نقل ما له به رواية ، وإن كان ضعيفا ( وسردت الكتب والأبواب ) أي : أوردتها ، ووضعتها متتابعة متوالية ( كما سردها ) أي : رتبها ، وعينها الإمام البغوي في المصابيح ( واقتفيت ) أي : اتبعت ( أثره ) : بفتحتين ، وقيل بكسر الهمزة ، وسكون المثلثة أي : طريقه ( فيها ) أي : الكتب ، والأبواب من غير تقديم ، وتأخير ، وزيادة عنوان ، وتغيير ; فإن ترتيبه على وجه الكمال ، وتبويبه في غاية من الحسن ، والجمال ، ويحتمل أن يكون تأكيدا لكمال المتابعة ، وتبرئة عما قد يرد على إيراده بعض الكتب ، والأبواب من وجوه المناسبة ( وقسمت ) : بالتخفيف ( كل باب ) : وكذا كل كتاب أي : جعلته مقسوما ( غالبا ) أي : في غالب الحال ( على فصول ثلاثة ) : وقيد الغالبية بمعنى الأكثرية ؛ لأنه قد لا يوجد الفصل الثاني ، أو الثالث ، أو كلاهما في بعض الأبواب من الكتاب .
( أولها ) أي : أول الفصول في هذا الكتاب بدل قول البغوي في المصابيح من الصحاح ( ما أخرجه ) أي : أورده ، أو أخرجه من بين الأحاديث ( الشيخان ) أي : يزعم صاحب المصابيح لما سيأتي من قوله : ( وإن عثرت على اختلاف الفصلين ) ، أو المراد في الغالب والنادر كالمعدوم ( أو أحدهما ) أي : أحد الشيخين بزعمه أيضا ، وهما البخاري ومسلم في اصطلاح المحدثين ، وأبو يوسف ، ومحمد عند فقهاء الحنفية ، والرافعي ، والنووي عند الشافعية ( واكتفيت ) : وفي نسخة ، وأكتفي ، وهو يحتمل المعلوم التفاتا ، والمجهول من الماضي والمضارع المتكلم المعروف وهو الأظهر ( بهما ) أي : بذكرهما في التخريج ( وإن اشترك ) : وصيلة لا تطلب جزاء ولا جوابا ( فيه ) أي : في تخريجه ( الغير ) أي : غيرهما من المحدثين ، والمخرجين كبقية الكتب الستة ، ونحوها ( لعلو درجتهما ) أي : على سائر المخرجين مع الفرق بينهما ( في الرواية ) : متعلق بالعلو ، أي : في شرائط إسنادها ، والتزام صحتها ما يلتزمه غيرهما من المحدثين ، وإن كان غيرهما أعلى مرتبة منهما في علو الإسناد ، فإن البخاري أخذ عن ، وهو أخذ عن أحمد بن حنبل ، وهو عن الشافعي مالك ، ولذا قال : إن من زينة الدنيا أن يقول الرجل حدثنا بشر الحافي مالك كذا ، وهذا يحتمل أن يكون مدحا للإسناد بمقتضى العلم الظاهر ، ويحتمل ذما بناء على التصوف الذي مبناه على علم الباطن كما قال بعضهم : حدثنا باب من أبواب الدنيا ، ولكنه محمول على ما إذا كان قصده السمعة ، وغرضه الرياء .
ثم اعلم أن الأئمة قد اختلفوا في الذي التزماه ; فإنه لم يصرح واحد منهما به في كتابه ، والأظهر ما قاله شرطهما ، وصاحبه أبو عبد الله الحاكم البيهقي أن شرطهما أن يكون للصحابي المشهور بالرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - راويان فأكثر ، ثم يكون للتابعي المشهور راويان ثقتان ، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين الحافظ المتقن المشهور ، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة ، ثم يكون شيخ البخاري ، أو مسلم حافظا متقنا مشهورا بالعدالة في روايته ، وله رواة ، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة . وقال شيخ الإسلام الحافظ ابن حجر العسقلاني : وهو إن انتقض في بعض الصحابة الذين أخرجا لهم ، فهو معتبر فيمن بعدهم ، فليس في كتابيهما حديث أصلا من رواية من ليس له إلا راو واحد فقط اهـ .
قيل : والحاكم موافق على استثناء الصحابة فكأنه رجع عن الأول ، ثم المراد بقوله في مستدركه : على شرطهما ، أو شرط أحدهما عند النووي ، وابن دقيق العيد ، والذهبي كأبي الصلاح أن يكون رجال ذلك الإسناد [ ص: 34 ] بأعيانهم في كتابيهما ، أو كتاب أحدهما ، وإلا قال صحيح فحسب ، ومخالفته لذلك في بعض المواضع تحمل على الذهول ، هذا ، وقال السيد جمال الدين لو لم يكتف المصنف بهما ، وذكر في كل حديث غيرهما ممن رواه كان أولى ، وأنسب ، وأحرى ، وأصوب ; لأن الحديث وإن كان في أصل الصحة لا يحتاج إلى غيرهما لكن في الترجيح لا يستغني عن ذكر غيرهما ; لأن الحديث الذي رواه الستة مثلا لا شك في ترجيحه على الذي رواه الشيخان ، أو أحدهما ، ولم يخرجه غيرهما .
( وثانيها ) أي : ثاني الفصول ، وهو المعبر عنه في المصابيح بقوله : من الحسان ( ما أورده غيرهما من الأئمة المذكورين ) ، وهم : أبو داود ، ، والترمذي ، والنسائي والدارمي ، ; فإن أحاديث المصابيح لا تتجاوز عن كتب الأئمة السبعة ، وأكثرها صحاح . وابن ماجه
( وثالثها ) : وهو المعبر عنه بالفصل الثالث ( ما اشتمل على معنى الباب ) أي : على معنى عقد له الباب ، ولم يذكره البغوي في الكتاب ( من ملحقات ) : بفتح الحاء ، ومن بيانية لما اشتمل ( مناسبة ) : بكسر السين أي : مشاكلة ، وهي صفة ملحقات ، والمراد بها زيادات ألحقها صاحب المشكاة على وجه المناسبة بكل كتاب وباب غالبا لزيادة الفائدة ، وعموم العائدة ( مع محافظة على الشريطة ) أي : من إضافة الحديث إلى الراوي من الصحابة ، والتابعين ، ونسبته إلى مخرجه من الأئمة المذكورين . ولما كان صاحب المصابيح ملتزما للأحاديث المرفوعة في كتابه في الفصلين ، ولم يلتزم المصنف ذلك نبه عليه بقوله ( وإن كان ) أي : المشتمل ( مأثورا ) أي : منقولا ، ومرويا ( عن السلف ) أي : المتقدمين ، وهم الصحابة ( والخلف ) أي : المتأخرين ، وهم التابعون ، واعلم أن تقديم السلف على الخلف ثابت في جميع النسخ المصححة ، وكأنه وقع في أصل ابن حجر سهوا من تقديم الخلف على السلف ، واعتمد عليه ، ولتوجيهه تكلف ، وقال : الخلف هم من بعد القرون الثلاثة الأول التي أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إليها بقوله : ( ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم خير القرون قرني ) ، وقدمهم مع أن رتبتهم التأخير كما صرح به هذا الحديث ; لأن تقديمهم أنسب بالغاية المذكورة ; لأنه إذا أتى بالمأثور عنهم فما عن السلف أولى اهـ . ولا يخفى أن هذا لا يصلح أن يكون سببا لتقديم الخلف على السلف ، نعم ، لو اقتصر على ذكر الخلف ، ونقل في كتابه عن السلف - لكان يوجه بهذا التوجيه ، ثم قال : والسلف ، وهم أهل القرون الثلاثة الذين هم خير الأمة بشهادة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - . وزعم أنه قد يكون في الخلف من هو أفضل من الصحابة مما تفرد به ، والأحاديث التي استدل بها ضعيفة ، أو محمولة على أن لهم مزية من حيث قوة الإيمان بالغيب ، والصبر على مر الحق في زمن الجور الصرف ، والمفضول قد توجد فيه مزية بل مزايا لا توجد في الفاضل ، ومن ثمة قيل ابن عبد البر لابن المبارك : أيما أفضل معاوية ، أو ؟ فقال : الغبار الذي دخل في أنف فرس عمر بن عبد العزيز معاوية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - خير من مثل كذا وكذا مرة اهـ . ولا يخفى أن عمر بن عبد العزيز ما أراد إلا هذا المعنى بهذه الحيثية بعينها ، وهي أن الخلف قد يوجد فيهم الكمالات العلمية ، والرياضات العملية ، والحقائق الأنسية ، والدقائق القدسية ، وحالات من الكرامات ، وخوارق العادات بحيث إنهم يكونون أفضل من بعض السلف ممن ليس له ذلك ، كأعرابي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعد ; فإنه لا يقال في حقه : إنه من جميع الوجوه أفضل من جميع الخلف من الأئمة المجتهدين ، والمشايخ المعتبرين . وأما فضيلة نسبة الصحبة فلا ينكر مؤمن شرفها ، فإنه بمنزلة الإكسير في عظم التأثير . ثم تفسير السلف والخلف على ما شرحه ، وإن كان صحيحا في نفس الأمر ، ولكن لا يلائم كلام المصنف ; فإنه ما يروي في كتابه إلا عن الصحابة ، والتابعين ، ويدل عليه أسماء رجاله المحصورين في ذكر الصحابة ، والتابعين ، فإذا فسر السلف بهم فلا يبقى لذكر الخلف معنى ، وهذا خلف ( ثم ) أي : ما ذكرت أني التزمت متابعة صاحب المصابيح في كل باب ( إنك ) أي : أيها الناظر في كتابي هذا ( إن فقدت ) أي : من محله ( حديثا ) أي : من أصله الذي هو المصابيح ( في باب ) : مثلا ، أو في كتاب أيضا ، والمعنى : ما وجدته بالكلية لئلا ابن عبد البر
[ ص: 35 ] يشكل بنقله من باب إلى باب كما فعله في مواضع من الكتاب ( فذلك ) أي : الفقد ، وعدم الوجد ليس صادرا عن طعن ، أو سهو بل صدر ( عن تكرير ) أي : عن وقوع تكرار وقع في المصابيح ( أسقطه ) أي : أحذف ذلك الحديث لتكريره ، وأذكره في موضع آخر بعينه من غير تغييره ; إذ لا داعي إلى إتيانه بعد ظهوره ، وبيانه ( وإن وجدت آخر ) أي : صادفت حديثا آخر ( بعضه ) : بالنصب بدل بعض من كل أي : حال كونه ( متروكا ) أي : بعضه حال كونه جاريا ، أو بناء ( على اختصاره ) : يعني اختصار محيي السنة ، ويؤيده قوله فيما بعد : ( أتركه ، وألحقه ) ، ويحتمل عود الضمير إلى الحديث ، ويؤيده قوله : ( أو مضموما إليه تمامه ) : كذا ذكره شيخ مشايخنا ميركشاه ، واقتصر الطيبي على الأول ، وتبعه ابن حجر ، والأظهر الثاني كما أفاده السيد جمال الدين لأنه حينئذ يكون الكلام على نسق واحد ، وأما على الأول فيحصل تفكيك الضمير ، وهو غير ملائم ، ثم المعنى : أو وجدت حديثا آخر مضموما إليه تمامه الذي أسقطه البغوي ، أو أتى به في محل آخر ( فعن داعي اهتمام ) : الفاء جزائية أي : فذلك الترك ، والضم لم يقع اتفاقا ، وإنما صدر ، ونشأ عن موجب اهتمام . وقيل : عن بمعنى اللام ، أي : فهو لأجل باعث اهتمام اقتضى أني ( أتركه ) أي : على اختصاره في الأول ( وألحقه ) : الواو بمعنى أو كما في نسخة ، أي : وألحقه في الثاني لفوات الداعي ، والسبب إلى اختصاره ، فهو نشر مرتب . قال الفاضل الطيبي : وذلك بأن تلك الرواية كانت مختصرة عن حديث طويل جدا فأتركه اختصارا ، أو كان حديثا يشتمل على معان جمة يقتضي كل باب معنى من معانيه ، وأورد الشيخ كلا في بابه فاقتفينا أثره في الإيراد ، وما لم يكن على هذين الوضعين أتممناه غالبا اهـ قال السيد جمال الدين : كذا قرره الشارح ، وحرره ، وأسند الاختصار ، والإتمام بصيغة المتكلم مع الغير من غير أن ينقل هذا الكلام من المؤلف ، وهذا الأمر من الشارح يحتمل أن يحمل على سماعه من المصنف ، ويحتمل أن يكون مراد الشارح أن هذا مقصود الماتن ، والله أعلم . ( وإن عثرت ) : بتثليث المثلثة ، والفتح أولى . أي : اطلعت أيها الناظر في كتابي هذا ( على اختلاف ) أي : بيني ، وبين صاحب المصابيح ( في الفصلين ) أي : الأولين وبيان الاختلاف قوله : ( من ذكر غير الشيخين ) : أي من المخرجين ( في الأول ) أي في الحديث المذكور في الفصل الأول ( وذكرهما ) أي : ، أو من ذكر للشيخين ( في الثاني ) أي : من الفصلين بأن يسند بعض الأحاديث فيه إليهما ، أو إلى أحدهما ( فاعلم ) : جزاء الشرط أي : إن اطلعت على ما ذكر فاعلم أنه ما صدر عني سهوا ، أو غفلة فلا تظن هذا ، واعلم ( أني بعد تتبعي ) أي : تفحصي ، وتحسسي ( كتابي : الجمع ) : تثنية مضاف أي : كتابين أحدهما الجمع ( بين الصحيحين ) أي : بين كتابي البخاري ، ومسلم المسميين بالصحيحين ( للحميدي ) : متعلق بالجمع ، وهو بالتصغير نسبة لجده الأعلى حميد الحافظ أبي عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي القرطبي ، وهو إمام عالم كبير مشهور ورد بغداد ، وسمع أصحاب ، وغيرهم ، ومات بها سنة ثمانين ، وأربعمائة ، ( وجامع الأصول ) : بالجر عطفا على الجمع ، أي : والآخر جامع الأصول ، أي : الكتب الستة للإمام الدارقطني مجد الدين أبي السعادات المبارك بن محمد الجزري الشهير بابن الأثير ، وله أيضا مناقب الأخيار ، وكتاب النهاية في غريب الحديث ، كان عالما محدثا لغويا ، وكان بالجزيرة ، وانتقل إلى الموصل ، ومات بها عام ست وستمائة ( اعتمدت على صحيحي الشيخين ، ومتنيهما ) : عطف بيان ، وإنما لم يكتف بهما ؛ لأنه ربما يحتمل أن يتوهم أن تتبعه واستقراءه غير تام ، فإذا وافق الحميدي ، وصاحب الأصول يصير الظن قويا بصحة استقرائه للموافقة ، ولو اكتفى بتتبع الجمع بين الصحيحين ، وجامع الأصول لاحتمل وقوع القصور في استقرائهما فبعد اتفاق [ ص: 36 ]
الأربعة يمكن الحكم بالجزم على سهو البغوي . ( وإن رأيت ) أي : أبصرت ، أو عرفت أيها الناظر في المشكاة ، وأصلها مع أصولهما ( اختلافا في نفس الحديث ) أي : في متنه لا إسناده بأن يكون لفظ الحديث في المشكاة مخالفا للفظ المصابيح ( فذلك ) أي : الاختلاف ناشئ ( من تشعب طرق الأحاديث ) أي : من اختلاف أسانيدها ، ورواتها حتى عند المؤلف الواحد إذ كثيرا ما يقع للشيخين ، أو أحدهما ، أو لغيرهما سوق الحديث الواحد من عدة طرق بألفاظ متباينة مختلفة المعاني تارة ، ومؤتلفتها أخرى ( ولعلي ) : للإشفاق ، أي : إذا وجدتني آثرت لفظ حديث على الذي رواه البغوي في المصابيح لعلي ( ما اطلعت ) أي : ما وقفت ( على تلك الرواية التي سلكها الشيخ ) أي : أطلقها ، وأوردها في مصابيحه ( رضي الله عنه ) : إذ هو إمام كبير ، واطلاعه كثير ، فأحذفها ، وآتي باللفظ الذي اطلعت عليه ( وقليلا ما تجد ) : زيادة ما لتأكيد القلة ، ونصب قليلا على المصدرية لقوله : ( أقول ) أي : وتجدني أقول قولا قليلا ما أي : في غاية من القلة ، والمقول قوله : ( ما وجدت هذه الرواية ) أي : مثلا ( في كتب الأصول ) أي : أصول الحديث من الكتب المبسوطة التي هي أصول السبعة عند الشيخ ، أو مطلق الأصول ، ولا يبعد أن ينصب قليلا على الظرفية ( أو وجدت ) : من جملة المقول ، وأو للتنويع ( خلافها فيها ) أي : خلاف هذه الرواية في الأصول ( فإذا وقفت عليه ) : الضمير راجع إلى المصدر المفهوم من قوله : ( أقول ) أي : إذا اطلعت على قولي بمعنى مقولي ( هذا فانسب ) : بضم السين أي : مع هذا ( القصور ) أي : التقصير في التتبع ( إلي لقلة الدراية ) أي : درايتي ، وتتبع روايتي ( لا ) أي : لا تنسب القصور ( إلى جانب الشيخ ) أي : إلى جانبه ، وساحة بابه ، لأنه كان من الأئمة الحفاظ المتقنين ، والعلماء الكاملين الراسخين ، هذا ما ظهر لي من معنى الكلام في هذا المقام . وقال ابن حجر : ( فإذا وقفت ) أي : فإذا حذفت لفظا وأتيت بغيره حسبما اطلعت عليه ، ووقفت أنت عليه أي : على ذلك اللفظ في الأصول فانسب إلي آخره . وأنا أقول أيضا فانسب القصور إلي لا إلى الشيخ ( رفع الله قدره ) : جملة دعائية ( في الدارين ) أي : في الدنيا بإلهام الناس الترضي ، والترحم عليه ، وفي العقبى بإعطائه معالم القرب لديه ( حاشا ) : بإثبات الألف ( لله ) أي : تنزيها له ( من ذلك ) أي : من نسبة القصور إلى الشيخ ، وهذا غاية من المؤلف في تعظيمه ، ونهاية أدب منه في تكريمه ، وهو حقيق بذلك ، وزيادة ، فإن له حق الإفادة ، ونسبة السيادة . قال ابن حجر : حاشا : حرف جر وضعت موضع التنزيه والبراءة ، وفي مغني اللبيب : الصحيح أن حاشا اسم مرادف للتنزيه من كذا . وزعم بعضهم أنه اسم فعل معناه التبري ، والبراءة . وقال الشيخ ابن حجر العسقلاني : هو تنزيه ، واستثناء . وقيل معناه : معاذ الله . وقيل : إنه فعل . قال السيد جمال الدين . قيل : الصحيح أنه اسم مرادف للتنزيه بدليل أنه قرئ حاش لله في سورة يوسف بالتنوين ، وهو لا يدخل على الفعل والحرف ، وقرئ أيضا حاش الله بالإضافة ، وهي من علامات الاسم ، وحينئذ له : ( لله ) لبيان المنزه ، والمبرأ كأنه قال : براءة وتنزيه . ثم قال : لله بيانا للمبرأ والمنزه ، فلامه كاللام في سقيا لك ، فعلى هذا يقال : معنى عبارة المشكاة : إن الشيخ مبرأ ، ومنزه عن قلة الدراية ، ثم أتى لبيان المنزه ، والمبرأ ، وله : ( لله ) ، وكان الظاهر أن يقول : الله بلا لام ، وكأنها لإفادة معنى الاختصاص فكأنه يقول : تنزيهه مختص لله تعالى ، وله أن ينزهه ، وليس لغيره ذلك ، وفيه غاية التعظيم لما هنالك ، ويحتمل أن يكون التقدير : وأقول في حقه :
[ ص: 37 ] التنزيه لله لا لأمر آخر . وقيل : حاشا فعل ، وفسر الآية بأن معناها جانب يوسف الفاحشة لأجل الله ، وعلى هذا يرجع عبارة المشكاة بأنه : جانب الشيخ ذلك القصور لأجل الله ، لا لغرض آخر ، أو قولنا في حقه : حاشا إنما هو لله لا لأمر آخر . وقيل : إنه اسم فعل بمعنى أنزه ، أو تبرأت ، واللام علة . وقيل : إنه حرف ، وهو في هذا المقام ضعيف ; لأن كونه حرفا بمعنى الاستثناء ، وهو غير مستقيم هنا ، ولام لله أيضا يأبى عن الحرفية ; لأن الحرف لا يدخل على الحرف ، والله أعلم . ( رحم الله ) : جملة دعائية ، كقول عمر - رضي الله عنه - : رحم الله امرءا أهدى إلي بعيوب نفسي ، أي : اللهم ارحم ( من إذا وقف على ذلك ) أي : على ما ذكر من الرواية التي أوردها الشيخ ، ولم أجدها في الأصول - ( نبهنا عليه وأرشدنا ) : فيه تجريد ، والمعنى : هدانا ( طريق الصواب ) أي : إليه بنسبة الرواية ، وتصحيحها إلى الباب والكتاب ، وهو إما محمول على الحقيقة بالمشافهة حال الحياة ، أو على المجاز بكتابة حاشية ، أو شرح بعد الممات ; إذ التصنيف لا يغير ، وإلا لم يوجد كتاب يعتبر ( ولم آل ) : بمد الهمزة ، وضم اللام من : ألا في الأمر إذا قصر ، أي : لم أترك ( جهدا ) أي : سعيا واجتهادا ، وهو بضم الجيم وفتحه ، أي : المشقة والطاقة ، وقيل : بالضم الطاقة ، وبالفتح المشقة . قال بعض الشراح : معناه لم أمنعك جهدا ، وكأنه حمله عليه ما وجد في كلام العرب : لا آلوك نصحا ، وقرر تركيب العبارة على حذف المفعول الأول ، واستعمل آلو بمعنى أمنع إما تجوزا ، وإما تضمينا ، ويلزم منه التقصير . والحال أن المعنى على اللزوم صحيح بأن جهدا يكون تمييزا ، أو حالا بمعنى مجتهدا ، أو منصوبا بنزع الخافض أي : في الاجتهاد ، وعلى تقدير أن يكون متعديا إلى مفعولين يمكن أن يضمن الترك ; فيكون متعديا إلى مفعول واحد ، هذا حاصل كلام السيد جمال الدين . وقال البيضاوي في قوله تعالى : ( لا يألونكم خبالا ) أي : لا يقصرون لكم في الفساد ، والألو : التقصير ، وأصله أن يعدى بالحرف ، ثم عدي إلى مفعولين كقولهم : لا آلوك نصحا ، على تضمين معنى المنع والنقص . وقال أبو البقاء : يألو يتعدى إلى مفعول واحد ، وخبالا تمييز ، أو منصوب بنزع الخافض ، ويجوز أن يكون مصدرا في موضع الحال ، والأظهر ما حققه القاضي أنه في أصله لازم ، ففي عبارة المشكاة إما يضمن معنى الترك فيكون جهدا مفعولا به ، أو يبقى على معناه الأصلي ، وينصب ( جهدا ) على أحد الاحتمالات الثلاث ، والمعنى : لم أقصر لكم ، أو لله ( في التنقير ) أي : في البحث ، والتجسس عن طرق الأحاديث ، واختلاف ألفاظها ( والتفتيش ) : عطف بيان لما قبله ( بقدر الوسع والطاقة ) أي : بمقدار وسعي وطاقتي في التفحص ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، والطاقة عطف بيان ، وإيراد الألفاظ المترادفة في الديباجات والخطب متعارف عند الفصحاء ، غير معايب عند البلغاء ( ونقلت ذلك الاختلاف ) أي : المختلف فيه ( كما وجدت ) أي : كما رأيته ( في الأصول ) : ولا اكتفيت بتقليد الشيخ ، ولو كان هو من أجلاء أرباب النقول . وقال ابن حجر : أي : ومن ثمة نقلت ذلك الاختلاف كما وجدته في الأصول من غير أن أتصرف فيه بتغيير ، أو بتبديل حتى أنسب كلا إلى مخرجه باللفظ ، والمعنى لا المعنى فحسب ; لوقوع الخلاف المشهور في جواز ، وهو وإن جاز - على الأصح للعارف بمدلولات الألفاظ ومعانيها - لكن التنزه عنها أولى خروجا من الخلاف اهـ . فتدبر يتبين لك الأظهر في حمل العبارة عليه ، وإن كان في أصل الكلام منه لا مناقشة لنا لديه مع أن التحريز المذكور ، والاختلاف المسطور إنما هو في نقل الراوي الحديث من شيخه إما مطلقا ، أو حال كونه ناسيا على المعتمد ، وأما نقل حديث من كتاب رواية الحديث بالمعنى كالبخاري ، وغيره ، وإسناده إليه من غير أن يبين أنه نقل بالمعنى فلا يجوز إجماعا ، والله أعلم . ( وما أشار إليه ) أي : الشيخ محيي السنة صريحا ، أو كناية - ( رضي الله عنه ) - : جملة دعائية معترضة بين المبين ، والمبين ، وهو قوله : ( من غريب ) أي : : وهو ما تفرد به الراوي عن سائر رواته ، ولم يشرك معه [ ص: 38 ] أحدا في روايته عن الراوي عنه ( أو حديث غريب ) : وهو ما لم يجتمع فيه صفات الصحيح ، والحسن بأن يكون في أحد رواته قدح ، أو تهمة ( أو غيرهما ) : اعتبارا لا حقيقة ، إذ ما عدا الصحيح والحسن داخل تحت أنواع الضعيف . والمراد بغيرهما نحو منكر : وهو ما رده قطعي ، أو رواه ضعيف مخالف لثقة ، أو ضعيف : وهو ما خالف الثقة من هو أوثق منه ، أو شاذ : وهو ما فيه علة خفية غامضة قادحة لم يدركها إلا الحذاق . واعلم أن معرفة أنواع الحديث ، وبيان حدودها ، وما يتعلق بها من قيودها يحتاج إلى بسط في الكلام ليس هذا موضع إيرادها ، وقد أوردنا في شرح النخبة ما يستفيد بذكره المبتدئ ، ولا يستغني عن تذكره المنتهي ( بينت وجهه ) أي : وجه غرابته ، أو ضعفه ، أو نكارته ( غالبا ) أي : في أكثر المواضع ، ولعل ترك التبيين في بعض مواضعه لعدم العلم به ، أو لاختلاف فيه ، أو لغير هذا ، وقد قال معلل السيد جمال الدين : المتبادر إلى الفهم من هذه العبارة أن أحاديث الحسان من المصابيح المعبر عنه في المشكاة بالفصل الثاني كل حديث ذكر الشيخ فيه أنه غريب ، أو ضعيف ، أو منكر بين المصنف وجهه بأن يقول - أي : الراوي - : تفرد به ، أو غير ثقة ، أو مخالف لما هو أوثق ، ونحوه بذكر منشئه ، والحال أنه لم يفعل ذلك بل في كل حديث ذكر محيي السنة أنه ضعيف ، أو غريب ذكر المصنف قائله الذي هو في غالب الأحوال من أرباب الأصول ، وعينه ، وغاية ما في الباب يشير الترمذي أحيانا إلى وجه الغرابة ، وبيان الضعف ، وهذا الصنيع من المصنف يقتضي أنه لم يجعل محيي السنة أهلا للحكم بالضعف ، والصحة في الحديث ; فلا جرم نسبته إلى من له أهلية ذلك انتهى . فيكون المعنى : بينت وجهه بنسبة الحكم عليه بذلك إلى أهله المرجوع إليهم فيه ، وهذا يحتمل على أن يكون تقوية للشيخ لا سلب الأهلية عنه ، فالعلمان خير من علم واحد ، بل في هذا هضم لنفس المصنف أن يكون له أهلية لذلك ( وما لم يشر إليه ) أي : الشيخ ( مما في الأصول ) أي : مما أشير إليه من المنقطع ، والموقوف ، والمرسل في جامع الترمذي ، وسنن الترمذي أبي داود ، والبيهقي ، وهو كثير ( فقد قفيته ) : بالتشديد أي : تبعته تأسيا به ، كذا قاله الطيبي ، وتبعه ابن حجر . وكتب ميرك في هامش الكتاب قفوته بالواو ، ورقم عليه ( ظ ) إشارة إلى أنه الظاهر . وكتب عمه السيد جمال الدين في أول شرح المشكاة أن أصل سماعنا ، وجميع النسخ المعتمدة الحاضرة صححت بتشديد الفاء . من التقفية ، وهي تستعمل في كلام العرب بعلى والباء ، وقد جاء في التنزيل : ( وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم ) وتستعمل أيضا بمن ، والباء قال تعالى : ( وقفينا من بعده بالرسل ) والمعنى هاهنا على التتبع فكان المناسب أن يكون بتخفيف الفاء ، وبالواو من القفو انتهى . وحاصل المناقشة أنه بالتشديد متعد إلى مفعولين بأحد الاستعمالين المذكورين ، وبالتخفيف ، والباء غير وارد ، وكلاهما مدفوع ; فإنه ذكر في مختصر النهاية قفيته ، وأقفيته تبعته ، واقتديت به ، وفي القاموس : قفوته تبعته كتقفيته ، واقتفيته : وقفيته زيدا أي : أتبعته إياه اهـ .
والظاهر من الآيات القرآنية أن قفى بالتشديد متعد بنفسه إلى واحد ، وبالباء إلى اثنين ، ولذا قال البيضاوي في قوله تعالى : ( وقفينا من بعده بالرسل ) أي : أرسلنا على أثره الرسل كقوله تعالى : ( ثم أرسلنا رسلنا تترى ) يقال : قفاه إذا أتبعه ، وقفاه به أتبعه إياه من القفا نحو ذنبه من الذنب انتهى . وعلى تقدير تسليم أنه متعد بنفسه إلى مفعولين فأمره سهل بأن يكون المعنى أتبعت نفسي إياه ( في تركه ) : وهو يحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى فاعله ، أو مفعوله ، أي : في ترك الشيخ الحكم على الحديث بشيء ، أو في ترك المشار إليه بالموافقة معه في السكوت عليه ( إلا في مواضع ) أي : قليلة أبينها ( لغرض ) : قال الفاضل الطيبي : وذلك أن بعض الطاعنين أفرزوا أحاديث من المصابيح ، ونسبوها إلى الوضع ، ووجدت صححها ، أو حسنها ، وغير الترمذي أيضا ; فبينته لرفع التهمة [ ص: 39 ] كحديث الترمذي : ( أبي هريرة ) فإنهم صرحوا بوضعه . وقال المرء على دين خليله في جامعه : إنه حسن . وقال الترمذي النووي في الرياض : إنه صحيح الإسناد ، ومن الغرض أن الشيخ شرط في الخطبة أنه أعرض عن ذكر المنكر ، وقد أتى في كتابه بكثير منه ، وبين في بعضها كونه منكرا ، وترك في بعضها ; فبينت أنه منكر اهـ . قال السيد جمال الدين : والجواب من قبل صاحب المصابيح أن يقال : مراده أنه أعرض عن المنكر المجمع على نكارته ، والذي أورده هو من قبيل المختلف فيه ، وصرح بإنكاره البعض لئلا يحمل على ذهوله ، وأعرض عن بيان البعض ; لأن الحكم بنكارته كان غير معتبر عنده ( وربما ) : بالتشديد أشهر ، وللتقليل أظهر ، وما كافة ( تجد ) أي : أيها الناظر في المشكاة ( مواضع مهملة ) أي : غير مبين فيها ذكر مخرجيها ( وذلك ) أي : الإهمال ، وعدم التبيين ( حيث لم أطلع على راويه ) أي : مخرجه ( فتركت البياض ) أي : عقب الحديث دلالة على ذلك ( فإن عثرت عليه ) أي : اطلعت أيها الناظر على مخرجه ( فألحقه ) أي : ذكر المخرج ( به ) أي : بذلك الحديث ، واكتبه في موضع البياض . وقال ابن حجر : ألحقه بذلك البياض ، وفيه مسامحة لا تخفى ( أحسن الله جزاءك ) أي : على هذا العمل ، والجزاء ممدود بمعنى الثواب ، وفيه إشارة لما ورد عن أسامة رواه مرفوعا من صنع إليه معروف فقال لفاعله : جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء ، الترمذي ، والنسائي . هذا ، وقد بين بعض العلماء المواضع المهملة في حاشية الكتاب تكملة ، وترك البياض في أصل المصنف ليدل على أن التبيين من غير المؤلف ( وسميت الكتاب بمشكاة المصابيح ) : قال وابن حبان الطيبي : روعي المناسبة بين الاسم ، والمعنى ، فإن المشكاة يجتمع فيها الضوء فيكون أشد تقويا بخلاف المكان الواسع ، والأحاديث إذا كانت غفلا عن سمة الرواة انتشرت ، وإذا قيدت بالراوي انضبطت ، واستقرت في مكانها اهـ . وتبعه ابن حجر ، وقال ميرك : الأظهر في وجه المطابقة أن كتابه محيط ، ومشتمل على ما في المصابيح من الأحاديث كما أن المشكاة محيطة ، ومشتملة على المصباح اهـ . ويمكن أن يقال : مراده بالمصابيح الأحاديث الواردة في كتابه مما في المصابيح ، وغيره مشبها بها لأنها آيات نورانية ، ودلالات برهانية صدرت من مشكاة صدر النبي - صلى الله عليه وسلم - ليقتدي بها أمته من العلماء ، والأولياء في بيداء الضلالة ، وصحراء الجهالة ، وهذا المعنى ورد : ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ، وشبه كتابه من حيث إنه جامع لها ، ومانع من تفرقها بالمشكاة ، وهي الكوة الغير النافذة ، ويحتمل أن يقال فيه معنى التورية : وهي أن يؤتى بكلمة لها معنيان أحدهما قريب ، والآخر بعيد ، ويكون المراد البعيد .
( وأسأل الله التوفيق ) أي : جعل أمور المريد على وفق المراد ، وهو في عرف العلماء خلق قدرة العبد في الطاعة ، والعبادة ( والإعانة ) أي : في الدين ، والدنيا ، والآخرة ، أو على ما قصدت ( والهداية ) أي : الدلالة على ما أردت ، أو ثبات الهداية من البداية إلى النهاية ( والصيانة ) أي : الحفظ ، والحماية من العقائد الدنية ، والأحوال الردية ، أو العصمة عن الخطل ، والزلل ، أو عما يمنع إتمام الكتاب من الموانع ، والعلل ( وتيسير ما أقصده ) : بكسر الصاد أي : تسهيل ما أريده من التحرير ، والتفتيش ، والتنقير ( وأن ينفعني ) أي : الله بهذا الكتاب ، وغيره ، وفي نسخة به ، أي : علما ، وعملا ، وتعليما ، وجوز أن يرجع ضمير ينفع إلى الكتاب على سبيل المجاز ( في الحياة ) أي : بالمباشرة ( وبعد الممات ) : بالسببية ، أو في الحياة بأن يجعله سببا لزيادة الأعمال ، وباعثا للترقي إلى علو الأحوال ، وبعد الممات بوصول أعلى الدرجات ، وحصول أعلى المقامات ( وجميع المسلمين ، والمسلمات ) : عطف على الضمير المنصوب في ينفعني أي : وأن ينفع بقراءته ، وكتابته ، ووقفه ، ونقله إلى البلدان ، ونحو ذلك ( حسبي الله ) : وفي نسخة بواو العطف أي : الله كان في جميع أموري ( ونعم الوكيل ) أي : الموكول إليه ، يعني هو المفوض إليه ، والمعتمد عليه ، والمخصوص بالمدح محذوف هو . ( ولا حول ) أي : عن معصية الله ( ولا قوة ) أي : على طاعته ( إلا بالله ) أي : بعصمته ، ومعونته ( العزيز ) أي : الغالب على ما يريد ، أو البديع الذي ليس كمثله شيء ( الحكيم ) أي : صاحب الحكم ، والحكمة على وجه الإتقان [ ص: 40 ] والإحكام . قال ابن حجر : ذكر هذين الاسمين ؛ لأنهما الواردان في ختم هذه الكلمة دون ما اشتهر من ختمها بالعلي العظيم على أن في بعض نسخ الحصن الحصين للحافظ الجزري رواية ختمها بالعلي العظيم فلعله رواية أخرى اهـ .
اعلم أن الرواية الصحيحة هي : العزيز الحكيم على ما في مسلم كما نقله صاحب المصابيح ، وتبعه صاحب المشكاة ، وكذا هو في أصل الحصن الحصين ، وكتب على حاشيته العلي العظيم ، ونسبها إلى البزار ، والله أعلم . ولما كان ينبغي لكل مصنف كما صرح به جمع من الأئمة أن يبدأ كتابه بالحديث الآتي المسمى بطليعة كتب الحديث . تنبيها على تصحيح النية ، والإخلاص لكل من العالم ، والمتعلم ، وأنه الأساس الذي يبنى عليه جميع الأحوال من العقائد ، والأعمال ، وعلى أن أول الواجبات قصد المقصد بالنظر الموصل إلى معرفة الصمد ، فالقصد سابق ، وما بقي لاحق ، وإن طالب الحديث حكم المهاجر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فعليه أن يراعي الإخلاص ليصل إلى مقام الاختصاص ، بدأ به المصنف اقتداء بالبغوي لا تبعا للبخاري كما قاله ابن حجر فقال :