فصل
اعلم أنه ورد النص عن أبي عمرو من رواية أصحاب اليزيدي عنه ، وعن شجاع أنه كان إذا أدغم الحرف الأول في مثله ، أو مقاربه ، وسواء سكن ما قبل الأول ، أو تحرك إذا كان مرفوعا أو مجرورا - أشار إلى حركته ، وقد اختلف أئمتنا في المراد بهذه الإشارة . فحمله ابن مجاهد على الروم ، فقال : كان أبو عمرو يشم الحرف الأول المدغم إعرابه في الرفع والخفض ، ولا يشم في النصب ، وهذا صريح في جعله إياه روما ، وتسمية الروم إشماما كما هو مذهب الكوفيين وحمله أبو الفرج الشنبوذي على أنه الإشمام فقال : الإشارة إلى الرفع في المدغم مرئية لا مسموعة وإلى الخفض مضمرة في النفس غير مرئية ولا مسموعة . وهذا صريح في جعله إياه إشماما على مذهب البصريين وحمله الجمهور على جميعا ، فقال الروم والإشمام : والإشارة عندنا تكون روما وإشماما ، والروم آكد في البيان عن كيفية الحركة ; لأنه يقرع السمع ، غير أن الإدغام الصحيح والتشديد التام يمتنعان معه ، ويصحان مع الإشمام ; لأنه إعمال العضو وتهيئته من غير صوت خارج إلى اللفظ فلا يقرع السمع ، ويمتنع في المخفوض لبعد ذلك العضو من مخرج الخفض ، فإن كان الحرف الأول منصوبا لم يشر إلى حركته لخفته . أبو عمرو الداني
( قلت ) : وهذا أقرب إلى معنى الإشارة ; لأنه أعم في اللفظ وأصوب في العبارة وتشهد له القراءتان الصحيحتان المجمع عليهما عن الأئمة السبعة وغيرهم في ( تأمنا ) في سورة يوسف ، وهو من الإدغام الكبير كما سيأتي . فإنهما بعينهما هما المشار إليهما في قول الجمهور وفي إدغام أبي عمرو .
ومما يدل على صحة ذلك أن الحرف المسكن للإدغام يشبه المسكن للوقف من حيث إن سكون كل منهما عارض له ; ولذلك أجري فيه المد وضده الجاريان في سكون الوقف [ ص: 297 ] كما سيأتي قريبا . نعم ، يمتنع الإدغام الصحيح مع الروم دون الإشمام ، إذ هو هنا عبارة عن الإخفاء والنطق ببعض الحركة ، فيكون مذهبا آخر غير الإدغام ، وغير الإظهار كما هو في تأمنا فإن قيل : فإذا أجري الحرف الساكن للإدغام مجرى المسكن للوقف في الروم والإشمام والمد وضده فهلا أجري فيه ترك الروم والإشمام ويكون هو الأصل في الإدغام كما هو الأصل في الوقف ؟
( قلت ) : ومن يمنع ذلك وهو الأصل المقروء به والمأخوذ عند عامة أهل الأداء من كل ما نعلمه من الأمصار وأهل التحقيق من أئمة الأداء بين من نص عليه كما هي رواية ، عن ابن جرير السوسي فيما ذكره الأستاذ أبو عبد الله بن القصاع ، وعليه كثير من العراقيين ، عن شجاع وغيره ، وبين من ذكره مع الروم والإشمام كالأستاذ أبي جعفر بن الباذش ، ومن تبعه ونحا نحوه ، وبين من أجراه على أصل الإدغام ولم يعول على الروم والإشمام ولا ذكرهما ألبتة : كأبي القاسم الهذلي والحافظ أبي العلاء ، وكثير من الأئمة ، وبين من ذكرهما نصا ، ولم يمتنع غيرهما كما فعل ، ومن معه من الجمهور ، مع أن الذي وصل إلينا عنهم أداء هو الأخذ بالأصل ، لا نعلم بين أحد ممن أخذنا عنه من أهل الأداء خلافا في جواز ذلك ، ولم يعول منهم على الروم والإشمام إلا حاذق قصد البيان والتعليم ، وعلى ترك الروم والإشمام سائر رواة الإدغام ، عن أبو عمرو الداني أبي عمرو ، وهو الذي لا يوجد نص عنهم بخلافه ، ثم إن الآخذين بالإشارة عن أبي عمرو أجمعوا على استثناء الميم عند مثلها وعند الباء ، وعلى استثناء مثلها وعند الميم . قالوا : لأن الإشارة تتعذر في ذلك من أجل انطباق الشفتين .
( قلت ) : وهذا إنما يتجه إذا قيل بأن المراد بالإشارة الإشمام ، إذا تعذر الإشارة بالشفة والباء والميم من حروف الشفة ، والإشارة غير النطق بالحرف ، فيتعذر فعلهما معا في الإدغام من حيث إنه وصل ، ولا يتعذر ذلك في الوقف ; لأن الإشمام فيه ضم الشفتين بعد سكون الحرف ، ولا يقعان معا ، واختلفوا في استثناء الفاء في الفاء فاستثناها [ ص: 298 ] أيضا غير واحد في " المستنير " ، كأبي طاهر بن سوار وأبي العز " القلانسي " في " الكفاية " وابن الفحام وغيرهم ; لأن مخرجها من مخرج الميم والباء ، فلا فرق ، ومثال ذلك يعلم ما . أعلم بما . نصيب برحمتنا . يعذب من . تعرف في وجوههم وانفرد أبو الكرم في " المصباح " في الإشارة بمذهب آخر ، فذكر : إن جاورت ضمة ، أو واوا مدية نحو يشكر لنفسه ، وينشر رحمته ، فاعبدوه هذا ما لم يشر إلى بيان حركة الإدغام ، وإن لم تجاور نحو يشفع عنده ، ينفق كيف ، كيد ساحر ، ونحن له إشارة إلى الحركة بالروم والإشمام ، وكأنه نقل ذلك من الوقف ، وحكى ابن سوار ، عن أبي علي العطار ، عن أبي أحمد عبد السلام بن الحسين بن البصري أنه كان يأخذ بالإشارة في الميم عند الميم ، وينكر على من يخل بذلك ، وقال : هكذا قرأت على جميع من قرأت عليه من الإدغام ، وهذا يدل على أن المراد بالإشارة الروم ، والله أعلم .