وأما الوقوف والابتداء
فلهما حالتان : ( الأولى ) معرفة ما يوقف عليه وما يبتدأ به ( والثانية ) كيف يوقف وكيف يبتدأ ، وهذه تتعلق بالقراءات ، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في باب الوقف على أواخر الكلم ومرسوم الخط .
والكلام هنا على ، وقد ألف الأئمة فيها كتبا قديما وحديثا ومختصرا ومطولا أتيت على ما وقفت عليه من ذلك ، واستقصيته في كتاب ( الاهتدا إلى معرفة الوقف والابتدا ) وذكرت في أوله مقدمتين جمعت بهما أنواعا من الفوائد . ثم استوعبت أوقاف القرآن سورة سورة ، وها أنا أشير إلى زبد ما في الكتاب المذكور فأقول . معرفة ما يوقف عليه ويبتدأ به
لما لم يمكن للقارئ أن يقرأ السورة ، أو القصة في نفس واحد ولم يجر التنفس بين كلمتين حالة الوصل ، بل ذلك كالتنفس في أثناء الكلمة وجب حينئذ اختيار وقف للتنفس والاستراحة وتعين ارتضاء ابتداء بعد التنفس والاستراحة ، [ ص: 225 ] وتحتم أن لا يكون ذلك مما يخل بالمعنى ولا يخل بالفهم ، إذ بذلك يظهر الإعجاز ويحصل القصد ; ولذلك حض الأئمة على تعلمه ومعرفته ما قدمنا عن - رضي الله عنه - قوله : الترتيل معرفة الوقوف وتجويد الحروف ، وروينا عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - أنه قال : قد عشنا برهة من دهرنا ، وإن أحدنا ليؤتى الإيمان قبل القرآن وتنزل السورة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيتعلم حلالها وحرامها وأمرها وزاجرها وما ينبغي أن يوقف عنده منها . ففي كلام ابن عمر علي - رضي الله عنه - دليل على وجوب تعلمه ومعرفته وفي كلام برهان على أن تعلمه إجماع من الصحابة - رضي الله عنهم - ، وصح ، بل تواتر عندنا تعلمه والاعتناء به من السلف الصالح ابن عمر كأبي جعفر يزيد بن القعقاع إمام أهل المدينة الذي هو من أعيان التابعين وصاحبه الإمام نافع بن أبي نعيم و وأبي عمرو بن العلاء يعقوب الحضرمي وغيرهم من الأئمة ، وكلامهم في ذلك معروف ، ونصوصهم عليه مشهورة في الكتب ، ومن ثم اشترط كثير من أئمة الخلف على المجيز أن لا يجيز أحدا إلا بعد معرفته الوقف والابتداء ، وكان أئمتنا يوقفوننا عند كل حرف ويشيرون إلينا فيه بالأصابع سنة أخذوها كذلك عن شيوخهم الأولين - رحمة الله عليهم أجمعين - ، وصح عندنا عن وعاصم بن أبي النجود وهو من أئمة التابعين علما وفقها ومقتدى أنه قال : إذا قرأت الشعبي ، كل من عليها فان فلا تسكت حتى تقرأ ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
وقد اصطلح الأئمة لأنواع أقسام الوقف والابتداء أسماء ، وأكثر في ذلك الشيخ أبو عبد الله محمد بن طيفور السنجاوندي ، وخرج في مواضع عن حد ما اصطلحه واختاره كما يظهر ذلك من كتابي : الاهتداء ، وأكثر ما ذكر الناس في أقسامه غير منضبط ولا منحصر .
وأقرب ما قلته في ضبطه أن ; لأن الكلام إما أن يتم أولا ، فإن تم كان اختياريا ، وكونه تاما لا يخلو إما أن لا [ ص: 226 ] يكون له تعلق بما بعده البتة - ، أي : لا من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى - فهو الوقف الذي اصطلح عليه الأئمة ( بالتام ) لتمامه المطلق ، يوقف عليه ويبتدأ بما بعده ، وإن كان له تعلق فلا يخلو هذا التعلق إما أن يكون من جهة المعنى فقط ، وهو الوقف المصطلح عليه ( بالكافي ) للاكتفاء به عما بعده ، واستغناء ما بعده عنه ، وهو كالتام في جواز الوقف عليه والابتداء بما بعده . وإن كان التعلق من جهة اللفظ فهو الوقف المصطلح عليه ( بالحسن ) ; لأنه في نفسه حسن مفيد يجوز الوقف عليه دون الابتداء بما بعده للتعلق اللفظي ، إلا أن يكون رأس آية ، فإنه يجوز في اختيار أكثر أهل الأداء لمجيئه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري - رضي الله تعالى عنها - أم سلمة بسم الله الرحمن الرحيم ثم يقف ، ثم يقول الحمد لله رب العالمين ثم يقف ، ثم يقول الرحمن الرحيم مالك يوم الدين . رواه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قرأ قطع قراءته آية آية يقول أبو داود ساكتا عليه ، والترمذي وأحمد وأبو عبيدة وغيرهم ، وهو حديث حسن وسنده صحيح . وكذلك عد بعضهم في ذلك سنة ، وقال الوقف على رءوس الآي أبو عمرو : وهو أحب إلي واختاره أيضا البيهقي في شعب الإيمان ، وغيره من العلماء وقالوا : الأفضل الوقوف على رءوس الآيات ، وإن تعلقت بما بعدها . قالوا : واتباع هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنته أولى ، وإن لم يتم الكلام كان الوقف عليه اضطراريا ، وهو المصطلح عليه ( بالقبيح ) لا يجوز تعمد الوقف عليه إلا لضرورة من انقطاع نفس ونحوه لعدم الفائدة ، أو لفساد المعنى .
( ) أكثر ما يكون في رءوس الآي وانقضاء القصص نحو الوقف على فالوقف التام بسم الله الرحمن الرحيم والابتداء الحمد لله رب العالمين ونحو الوقف على مالك يوم الدين والابتداء إياك نعبد وإياك نستعين ونحو وأولئك هم المفلحون والابتداء إن الذين كفروا ونحو إن الله على كل شيء قدير والابتداء ياأيها الناس اعبدوا ربكم ونحو وهو بكل شيء عليم [ ص: 227 ] والابتداء وإذ قال ربك للملائكة ونحو وأنهم إليه راجعون والابتداء يابني إسرائيل اذكروا نعمتي ، وقد تكون قبل انقضاء الفاصلة نحو وجعلوا أعزة أهلها أذلة هذا انقضاء حكاية كلام بلقيس ، ثم قال - تعالى - : وكذلك يفعلون رأس آية . وقد يكون وسط الآية نحو لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني هو تمام حكاية قول الظالم وهو أبي بن خلف ، ثم قال تعالى ( وكان الشيطان للإنسان خذولا ) ، وقد يكون بعد انقضاء الآية بكلمة نحو : ( لم نجعل لهم من دونها سترا ) آخر الآية . أو كذلك كان خبرهم ، على اختلاف بين المفسرين في تقديره مع إجماعهم على أنه التمام ، ونحو وإنكم لتمرون عليهم مصبحين ، وهو آخر الآية التمام وبالليل ، أي : مصبحين ومليلين ونحوه وسررا عليها يتكئون آخر الآية ، والتمام وزخرفا ، وقد يكون الوقف تاما على التفسير ، أو إعراب ويكون غير تام على آخر نحو وما يعلم تأويله إلا الله وقف تام على أن ما بعده مستأنف ، وهو قول ابن عباس وعائشة وغيرهم ومذهب وابن مسعود أبي حنيفة وأكثر أهل الحديث به وقال نافع والكسائي ويعقوب والفراء والأخفش وأبو حاتم وسواهم من أئمة العربية ، قال عروة : والراسخون في العلم لا يعلمون التأويل ، ولكن يقولون آمنا به ، وهو غير تام عند آخرين والتمام عندهم على والراسخون في العلم فهو عندهم معطوف عليه ، وهو اختيار وغيره ، ونحو ابن الحاجب الم ونحوه من حروف الهجاء فواتح السور الوقف عليها تام على أن يكون المبتدأ ، أو الخبر محذوفا ، أي : هذا ألم ، أو ألم هذا ، أو على إضمار فعل ، أي : قل ألم على استئناف ما بعدها ، وغير تام على أن يكون ما بعدها هو الخبر ، وقد يكون الوقف تاما على قراءة وغير تام على أخرى نحو : مثابة للناس وأمنا تام على قراءة من كسر خاء واتخذوا وكافيا على قراءة من فتحها ، ونحو إلى صراط العزيز الحميد تام على قراءة من رفع الاسم الجليل بعدها ، وحسن على قراءة من خفض .
وقد نحو يتفاضل التام في التمام مالك يوم الدين ، وإياك نعبد ، وإياك نستعين [ ص: 228 ] كلاهما تام ، إلا أن الأول أتم من الثاني لاشتراك الثاني فيما بعده في معنى الخطاب بخلاف الأول .