تنبيهات
( الأول ) : إن الخلاف المذكور في هذا الباب هو مخصوص بحالة الوصل ، وإذا سكنت الياء أجريت مع همزة القطع مجرى المد المنفصل حسبما تقدم الخلاف فيه في بابه فإذا سكنت مع همزة الوصل حذفت وصلا لالتقاء الساكنين .
( الثاني ) : من أجل التقاء الساكنين ، وكذلك إذا وقف كما قدمنا في باب المد . وأما من فتحها فإنه إذا وقف جازت له الثلاثة الأوجه من أجل عروض السكون لأن الأصل في مثل هذه الياء الحركة لالتقاء الساكنين وإن كان الأصل في ياء الإضافة الإسكان فإن حركة هذه الياء صارت أصلا آخر من أجل سكون ما قبلها ، وذلك نظير حيث وكيف فإن حركة الثاء والفاء صارت أصلا وإن كان الأصل فيهما السكون فلذلك إذا وقف عليهما جازت الأوجه الثلاثة وهذه الحركة من محياي غير الحركة من نحو من سكن الياء من محياي وصلا مد الألف مدا مشبعا دعائي إلا فرارا فإن الحركة في مثل هذا عرضت لالتقاء الياء بالهمزة فإذا وقف عليها زال الموجب فعادت إلى سكونها الأصلي . فلذلك جاء من طريق لورش الأزرق في دعائي في الوقف ثلاثة دون الوصل كما بينا ذلك وأوضحناه آخر باب المد - والله أعلم - .
( الثالث ) : ما تقدم من روى عن ورشا نافع أنه كان أولا يقرأ محياي بالإسكان ثم رجع إلى الحركة تعلق به بعض الأئمة فضعف قراءة الإسكان حتى قال أن أبو شامة هذه الرواية تقضي على جميع الروايات فإنها أخبرت بالأمرين جميعا ومعها زيادة علم بالرجوع عن الإسكان إلى التحريك فلا تعارضها رواية الإسكان فإن الأول معترف بها ومخبر بالرجوع عنها ، وإن رواية إسماعيل بن
[ ص: 177 ] جعفر ، وهو أجل رواة نافع موافقة لما هو المختار . ثم قال أبو شامة فلا ينبغي لذي لب إذا نقل له عن إمام روايتان إحداهما أصوب وجها من الأخرى أن يعتقد في ذلك إلا أنه رجع عن الضعيف إلى الأقوى انتهى . ( وفيه ما لا يخفى ) .
أما قوله إن رواية الفتح تقضي على جميع الروايات فغير مسلم أن رواية شخص انفرد بها عن الجم الغفير تقضي عليهم مع إعلال الأئمة لها وردها . وأما قوله إن رواية عن إسماعيل بن جعفر نافع الفتح فهذا مما لا يعرف في كتاب من كتب القراءات وهذه الكتب موجودة لم يذكر فيها أحد عن إسماعيل ذلك ، ولم يذكر هذا عن إسماعيل إلا ابن مجاهد في كتاب الياءات له ، وهو مما عده الأئمة غلطا كما سيأتي . وأما قوله فلا ينبغي لذي لب إلى آخره فظاهر في البطلان ، بل لا ينبغي لذي لب قوله فإنه يلزم منه ترك كثير من الروايات ورفض غير ما حرف من القراءات المتواترة عن كل واحد من الأئمة - والله أعلم - .
وقد رد أبو إسحاق الجعبري عليه وأجاب بأن الصحيح إن كان يعني في قوله كان نافع أولا يسكن ثم رجع إلى الفتح يدل على الثبوت من غير انقطاع فيستمر قال : وقوله ثم رجع إلى تحريكها معناه انتقل .
وهذا يدل على الأمرين لأن الانتقال : لا يلزم منه إبطال المنتقل عنه إلا إذا امتنع فلم يقل نافع رجعت ، ولم يقل أحد رجع عن الإسكان إلى الفتح . قال : وقوله هذه حاكمة على الإسكان فإنها أخبرت بالأمرين ومعها زيادة علم بالرجوع لا يدل على الرجوع لعدم التعدية بعن والتعارض وزيادة العلم إنما يعتبر فيما سبيله الشهادات لا في الروايات . قال : وقوله إحداهما أصوب من الأخرى يفهم منه أن الأخرى صواب فهذا مناقض لقوله غير صحيحة . وإن أراد إحداهما صواب والأخرى خطأ فخطأ لما قدمنا وأخذ الأقوى من قولي إمام إنما هو في المجتهدات لا في المنصوصات إذ اليقين لا ينقض باليقين قال : وقوله الرجوع عن الضعيف إلى الأقوى متناقض من وجهين ويلزم منه رفع كل وجهين متفاوتين قوة وضعفا انتهى .
( قلت ) : أما رواية أن نافعا [ ص: 178 ] رجع إلى الفتح ، فقد رده أعرف الناس به الحافظ الحجة فقال بعد أن أسنده وأسند رواية الإسكان في جامع البيان : هو خبر باطل لا يثبت عن أبو عمرو الداني نافع ، ولا يصح من جهتين : إحداهما أنه مع انفراده وشذوذه معارضا للأخبار المتقدمة التي رواها من تقوم الحجة بنقله ويجب المصير إلى قوله والانفراد والشذوذ لا يعارضان التواتر ، ولا يردان قول الجمهور . قال : والجهة الثانية أن نافعا لو كان قد زال عن الإسكان إلى الفتح لعلم ذلك من بالحضرة من أصحابه الذين رووا اختياره ودونوا عنه حروفه كإسحاق بن محمد المسيبي وإسماعيل بن جعفر الأنصاري وسليمان بن جماز الزهري وغيرهم ممن لم يزل ملازما له ومشاهدا لمجلسه من لدن تصدره إلى حين وفاته ولرووا ذلك عنه ، أو رواه بعضهم إذا كان محالا أن يغير شيئا من اختيار ويزول عنه إلى غيره ، وهم بالحضرة معه وبين يديه ، ولا يعرفهم بذلك ، ولا يوقفهم عليه ويقول لهم كنت اخترت كذا ثم زلت الآن عنه إلى كذا فدونوا ذلك عني ، وغيروا ما قد زلت عنه من اختياري فلم يكن ذلك وأجمع كل أصحابه على رواية الإسكان عنه نصا وأداء دون غيره فثبت أن الذي رواه وعيسى بن مينا ، الحمراوي عن أبي الأزهر عن باطل لا شك في بطلانه فوجب إطراحه ولزم المصير إلى سواه بما يخالفه ويعارضه . قال ورش الداني : - رحمه الله - والذي يقع في نفسي ، وهو الحق - إن شاء الله تعالى - أن أبا الأزهر حدث الحمراوي الخبر مرفوعا على كما رواه عنه من قدمنا ذكره من جملة أصحابه وثقات رواته دون اتصاله بنافع وإسناد الزوال عن الإسكان إلى الفتح إليه ، بل ورش ، دون فنسي ذلك على طول الدهر من الأيام فلما أن حدث به أسنده إلى لورش نافع ووصله به وأضاف القصة إليه فحمله الناس عنه كذلك وقبله جماعة من العلماء وجعلوه حجة ، وقطعوا بدليله على صحة الفتح ومثل ذلك قد يقع لكثير من نقلة الأخبار ورواة السنن فيسندون الأخبار الموقوفة والأحاديث المرسلة والمقطوعة لنسيان يدخلهم ، أو لغفلة تلحقهم فإذا رفع ذلك إلى أهل المعرفة ميزوه ونبهوا عليه وعرفوا بعلته
[ ص: 179 ] وسبب الوهم فيه فإذا كان الأمر كذلك فلا سبيل إلى التعليق في صحة الفتح بدليل هذا الخبر إذ هو عن مذهب نافع واختياره بمعزل .
قال : ومما يؤيد جميع ما قلناه ويدل على صحة ما تأولناه ويحقق قول الجماعة عن ما أخبرنا ورش عبد العزيز بن محمد المقري . حدثنا عبد الواحد بن عمر حدثنا أبو بكر شيخنا حدثنا الحسن بن علي حدثنا أحمد بن صالح عن أنه كره إسكان الياء من : محياي ففتحها قال ورش ، الداني : وهذا مما لا يحتاج فيه معه إلى زيادة بيان ويدل على أن السبب كان ما ذكرناه ما رواه عن ابن وضاح عبد الصمد أنه قال : أنا أتبع نافعا على إسكان الياء من محياي وأدع ما اختاره من فتحها . حدثنا ورش الفارسي أبو طاهر بن أبي هاشم . حدثنا ابن مجاهد عن ابن الجهم عن الهاشمي عن إسماعيل عن نافع أنه فتح ياء محياي قال الداني : وذلك وهم من ابن الجهم من جهتين : إحداهما أن الهاشمي لم يذكر ذلك في كتابه ، بل ذكر فيه في مكانين إسكان الياء . والثانية أن إسماعيل نص عليهما في كتابه المصنف في قراءة المدنيين ، وهو الذي رواه عنه الهاشمي ، وغيره بالإسكان .
حدثنا الخاقاني حدثنا أحمد بن محمد حدثنا أبو عمر قال : حدثنا ابن منيع حدثنا جدي حدثنا حسين بن محمد بن أحمد المروزي حدثنا إسماعيل عن نافع ومحياي مجزومة الياء انتهى ، وكذا يكون كلام الأئمة المقتدى بهم قولا وفعلا فرحمه الله من إمام لم يسمح الزمان بعده بمثله . وقاله في كتاب الإيجاز أيضا - والله أعلم - .