أفردها بالتأليف ابن أبي الإصبع في كتاب سماه الخواطر السوانح في أسرار الفواتح وأنا ألخص هنا ما ذكره مع زوائد من غيره :
اعلم أن لا يخرج شيء من السور عنها . الله تعالى افتتح سور القرآن بعشرة أنواع من الكلام ،
الأول : الثناء عليه تعالى ، والثناء قسمان : إثبات لصفات المدح ، ونفي وتنزيه من صفات النقص . فالأول : التحميد في خمس سور ، وتبارك في سورتين . والثاني : التسبيح في سبع سور .
قال الكرماني في متشابه القرآن : التسبيح كلمة استأثر الله بها ، فبدأ بالمصدر في بني إسرائيل لأنه الأصل ، ثم بالماضي في الحديد والحشر ، لأنه أسبق الزمانين ثم بالمضارع في الجمعة والتغابن ، ثم بالأمر في الأعلى استيعابا لهذه الكلمة في جميع جهاتها .
الثاني : حروف التهجي في تسع وعشرين سورة ، وقد مضى الكلام عليها مستوعبا في نوع المتشابه ، ويأتي الإلمام بمناسباتها في نوع المناسبات .
الثالث : النداء في عشر سور : خمس بنداء الرسول صلى الله عليه وسلم : الأحزاب والطلاق والتحريم والمزمل والمدثر ، وخمس بنداء الأمة : النساء ، والمائدة ، والحج ، والحجرات ، والممتحنة .
الرابع : الجمل الخبرية نحو : يسألونك عن الأنفال [ الأنفال ] . براءة من الله [ التوبة ] . أتى أمر الله [ النحل ] . اقترب للناس حسابهم [ الأنبياء ] . قد أفلح المؤمنون [ المؤمنون ] . [ ص: 210 ] سورة أنزلناها [ النور ] . تنزيل الكتاب الذين كفروا [ محمد ] . إنا فتحنا [ الفتح ] . اقتربت الساعة [ القمر ] . الرحمن علم [ الرحمن ] . قد سمع الله [ المجادلة ] . الحاقة سأل سائل [ المعارج ] . إنا أرسلنا نوحا [ نوح ] . لا أقسم في موضعين [ القيامة ، والبلد ] . عبس إنا أنزلناه [ القدر ] . لم يكن القارعة ألهاكم [ التكاثر ] . إنا أعطيناك [ الكوثر ] . فتلك ثلاث وعشرون سورة .
الخامس : القسم في خمس عشرة سورة .
سورة أقسم فيها بالملائكة وهي والصافات
وسورتان بالأفلاك : البروج والطارق .
وست سور بلوازمها : فالنجم قسم بالثريا ، والفجر بمبدأ النهار ، والشمس بآية النهار ، والليل بشطر الزمان ، والضحى بشطر النهار ، والعصر بالشطر الآخر ، أو بجملة الزمان .
وسورتان بالهواء الذي هو أحد العناصر ، والذاريات ، والمرسلات ، وسورة بالتربة التي هي منها أيضا ، وهي الطور ، وسورة بالنبات ، وهي والتين ، وسورة بالحيوان الناطق ، وهي والنازعات ، وسورة بالبهيم وهي والعاديات .
السادس : الشرط في سبع سور : الواقعة والمنافقون والتكوير والانفطار والانشقاق والزلزلة والنصر .
السابع : الأمر في ست سور : قل أوحي اقرأ قل ياأيها الكافرون قل هو الله أحد قل أعوذ المعوذتين .
الثامن : الاستفهام في ست سور : عم يتساءلون هل أتى هل أتاك ألم نشرح ألم تر أرأيت .
التاسع : الدعاء في ثلاث : ويل للمطففين ويل لكل همزة تبت .
[ ص: 211 ] العاشر : التعليل في تبت .
هكذا جمع أبو شامة قال : وما ذكرناه في الدعاء يجوز أن يذكر مع الخبر ، وكذا الثناء كله خبر إلا سبح فإنه يدخل في قسم الأمر ، وسبحان يحتمل الأمر والخبر .
ثم نظم ذلك في بيتين فقال :
أثنى على نفسه سبحانه بثبو ت الحمد والسلب لما استفتح السورا والأمر شرط الندا التعليل والقسم الد
عا حروف التهجي استفهم الخبرا
قالوا : وقد أتت جميع فواتح السور على أحسن الوجوه وأبلغها وأكملها ، كالتحميدات وحروف الهجاء والنداء وغير ذلك .
ومن الابتداء الحسن نوع أخص منه يسمى : براعة الاستهلال ، وهو أن يشتمل أول الكلام على ما يناسب الحال المتكلم فيه ، ويشير إلى ما سيق الكلام لأجله ، والعلم الأسنى في ذلك سورة الفاتحة التي هي مطلع القرآن ، فإنها مشتملة على جميع مقاصده ، كما قال البيهقي في شعب الإيمان : أخبرنا أبو القاسم بن حبيب ، أنبأنا محمد بن صالح بن هانئ ، أنبأنا حدثنا الحسين بن الفضل ، عن عفان بن مسلم ، عن الربيع بن صبيح ، الحسن ، قال : أنزل الله تعالى مائة وأربعة كتب ، أودع علومها أربعة منها : التوراة ، والإنجيل ، والزبور ، والفرقان ، ثم أودع علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان القرآن ، ثم أودع علوم القرآن المفصل ، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب ، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع الكتب المنزلة . وقد وجه ذلك بأن : العلوم التي احتوى عليها القرآن وقامت بها الأديان أربعة
علم الأصول ومداره على معرفة الله تعالى وصفاته ، وإليه الإشارة ب رب العالمين الرحمن الرحيم [ ص: 212 ] ومعرفة النبوات وإليه الإشارة ب الذين أنعمت عليهم ومعرفة المعاد وإليه الإشارة ب مالك يوم الدين .
وعلم العبادات : وإليه الإشارة ب إياك نعبد .
وعلم السلوك : وهو حمل النفس على الآداب الشرعية والانقياد لرب البرية وإليه الإشارة ب إياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم
وعلم القصص : وهو الاطلاع على أخبار الأمم السالفة والقرون الماضية ليعلم المطلع على ذلك سعادة من أطاع الله وشقاوة من عصاه وإليه الإشارة بقوله : صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
فنبه في الفاتحة على جميع مقاصد القرآن ، وهذا هو الغاية في براعة الاستهلال مع ما اشتملت عليه من الألفاظ الحسنة والمقاطع المستحسنة وأنواع البلاغة .
وكذلك أول سورة " اقرأ " فإنها مشتملة على نظير ما اشتملت عليه الفاتحة من براعة الاستهلال ، لكونها أول ما أنزل فإن فيها الأمر بالقراءة والبداءة فيها باسم الله وفيه الإشارة على علم الأحكام ، وفيها ما يتعلق بتوحيد الرب وإثبات ذاته وصفاته من صفة ذات وصفة فعل ، وفي هذه الإشارة إلى أصول الدين وفيها ما يتعلق بالأخبار من قوله علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 5 ] . ولهذا قيل : إنها جديرة أن تسمى عنوان القرآن لأن عنوان الكتاب يجمع مقاصده بعبارة وجيزة في أوله .