[ ص: 59 ] النوع الرابع والخمسون في كناياته وتعريضه .
هما من أنواع البلاغة وأساليب الفصاحة ، وقد تقدم أن الكناية أبلغ من التصريح ، وعرفها أهل البيان بأنها لفظ أريد به لازم معناه .
وقال الطيبي : ترك التصريح بالشيء إلى ما يساويه في اللزوم ، فينتقل منه إلى الملزوم . وأنكر وقوعها في القرآن من أنكر المجاز فيه ؛ بناء على أنها مجاز ، وقد تقدم الخلاف في ذلك . . وللكناية أساليب
أحدها : التنبيه على عظم القدرة ، نحو : هو الذي خلقكم من نفس واحدة [ الأعراف : 189 ] ، كناية عن آدم .
ثانيها : ترك اللفظ إلى ما هو أجمل ، نحو : إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة [ ص : 23 ] ، فكنى بالنعجة عن المرأة كعادة العرب في ذلك ؛ لأن ترك التصريح بذكر النساء أجمل منه ؛ لهذا لم تذكر في القرآن امرأة باسمها إلا مريم . قال السهيلي : وإنما ذكرت مريم باسمها على خلاف عادة الفصحاء لنكتة ، وهو أن الملوك والأشراف لا يذكرون حرائرهم في ملإ ولا يبتذلون أسماءهن ، بل يكنون عن الزوجة بالفرش والعيال ونحو ذلك ، فإذا ذكروا الإماء لم يكنوا عنهن ولم يصونوا أسماءهن عن الذكر ، فلما قالت النصارى في مريم ما قالوا صرح الله باسمها ، ولم يكن إلا تأكيدا للعبودية التي هي صفة لها ، وتأكيدا لأن عيسى لا أب له وإلا لنسب إليه .
ثالثها : أن يكون التصريح مما يستقبح ذكره ككناية الله عن الجماع بالملامسة والمباشرة والإفضاء والرفث والدخول ، والسر في قوله : ولكن لا تواعدوهن سرا [ ص: 60 ] [ البقرة : 235 ] ، والغشيان في قوله : فلما تغشاها [ الأعراف : 189 ] ، أخرج عن ابن أبي حاتم ، قال : المباشرة الجماع ، ولكن الله يكني . ابن عباس
وأخرج عنه قال : إن الله كريم يكني ما شاء ، وإن الرفث هو الجماع ، وكنى عن طلبه بالمراودة في قوله : وراودته التي هو في بيتها عن نفسه [ يوسف : 23 ] ، وعنه : أو عن المعانقة باللباس في قوله : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن [ البقرة : 187 ] ، وبالحرث في قوله : نساؤكم حرث لكم [ البقرة : 223 ] .
وكنى عن البول ونحوه بالغائط في قوله : أو جاء أحد منكم من الغائط [ المائدة : 6 ] ، وأصله المكان المطمئن من الأرض . وكنى عن قضاء الحاجة بأكل الطعام في قوله في مريم وابنها كانا يأكلان الطعام [ المائدة : 75 ] ، وكنى عن الأستاه بالأدبار في قوله : يضربون وجوههم وأدبارهم [ محمد : 27 ] ، أخرج عن ابن أبي حاتم مجاهد في هذه الآية قال : يعني أستاههم ، ولكن الله يكني .
وأورد على ذلك التصريح بالفرج في قوله : والتي أحصنت فرجها [ التحريم : 12 ] ، وأجيب بأن المراد به فرج القميص ، والتعبير به ألطف الكنايات وأحسنها ؛ أي : لم يعلق ثوبها بريبة فهي طاهرة الثوب ، كما يقال نقي الثوب وعفيف الذيل ، كناية عن العفة ، ومنه : وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] ، وكيف يظن أن نفخ جبريل وقع في فرجها ، وإنما نفخ في جيب درعها .
ونظيره أيضا : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن [ الممتحنة : 12 ] ، قلت : وعلى هذا ففي الآية كناية عن كناية ، ونظيره ما تقدم من مجاز المجاز .
رابعها : قصد البلاغة والمبالغة ، نحو : أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين [ الزخرف : 18 ] ، كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين الشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك ، والمراد نفي ذلك عن الملائكة .
وقوله : بل يداه مبسوطتان [ المائدة : 64 ] ، كناية عن سعة جوده وكرمه جدا .
[ ص: 61 ] خامسها : قصد الاختصار كالكناية عن ألفاظ متعددة بلفظ فعل ، نحو : لبئس ما كانوا يفعلون [ المائدة : 79 ] ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا [ البقرة : 24 ] ؛ أي : فإن لم تأتوا بسورة من مثله .
سادسها : التنبيه على مصيره ، نحو : تبت يدا أبي لهب [ المسد : 1 ] ؛ أي : جهنمي مصيره إلى اللهب حمالة الحطب في جيدها حبل أي : نمامة مصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم في جيدها غل .
قال بدر الدين بن مالك في المصباح : إنما يعدل عن الصرائح إلى الكناية بنكتة كالإيضاح أو بيان حال الموصوف أو مقدار حاله أو القصد إلى المدح أو الذم أو الاختصار أو الستر أو الصيانة أو التعمية والإلغاز أو التعبير عن الصعب بالسهل وعن المعنى القبيح باللفظ الحسن .
واستنبط نوعا من الكناية غريبا ، وهو أن تعمد إلى جملة معناها على خلاف الظاهر ، فتأخذ الخلاصة من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة والمجاز ، فتعبر بها عن المقصود كما تقول في ، نحو : الزمخشري الرحمن على العرش استوى [ طه : 5 ] ، إنه كناية عن الملك ، فإن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك ، فجعل كناية عنه ، وكذا قوله والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه [ الزمر : 67 ] ، كناية عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين : حقيقة ومجاز . تذنيب : من أنواع البديع التي تشبه الكناية الإرداف ؛ وهو أن يريد المتكلم معنى ولا يعبر عنه بلفظ الموضوع له ، ولا بدلالة الإشارة ، بل بلفظ يرادفه كقوله تعالى : وقضي الأمر [ هود : 44 ] ، والأصل : وهلك من قضى الله هلاكه ، ونجا من قضى الله نجاته وعدل عن ذلك إلى لفظ الإرداف لما فيه من الإيجاز والتنبيه على أن هلاك الهالك ونجاة الناجي كان بأمر آمر مطاع ، وقضاء من لا يرد قضاؤه ، والأمر يستلزم آمرا ، فقضاؤه يدل على قدرة الآمر به وقهره ، وإن الخوف من عقابه ورجاء ثوابه يحضان على طاعة الأمر ، ولا يحصل ذلك كله في اللفظ الخاص .
[ ص: 62 ] وكذا قوله : واستوت على الجودي [ هود : 4 ] ، حقيقة ذلك : ( جلست ) ، فعدل عن اللفظ الخاص بالمعنى إلى مرادفه لما في الاستواء من الإشعار بجلوس متمكن لا زيغ فيه ولا ميل ، وهذا لا يحصل من لفظ الجلوس .
وكذا : فيهن قاصرات الطرف [ الرحمن : 56 ] ، الأصل : ( عفيفات ) ، وعدل عنه للدلالة على أنهن مع العفة لا تطمح أعينهن إلى غير أزواجهن ، ولا يشتهين غيرهم . ولا يؤخذ ذلك من لفظ العفة .
قال بعضهم : : أن الكناية انتقال من لازم إلى ملزوم ، والإرداف من مذكور إلى متروك . والفرق بين الكناية والإرداف
ومن أمثلته أيضا : ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [ النجم : 31 ] ، عدل في الجملة الأولى عن قوله ب ( السوءى ) ؛ أي : مع أن فيه مطابقة للجملة الثانية إلى : بما عملوا تأدبا أن يضاف السوء إلى الله تعالى .