القول في
هو أحد أساليب البلاغة ؛ فإنهم أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة ، وملكتهم في الكلام ، وانقياده لهم ، وله في القلوب أحسن موقع ، وأعذب مذاق . التقديم والتأخير
وقد اختلف في عده من المجاز ، فمنهم من عده منه ؛ لأنه تقديم ما رتبته التأخير كالمفعول ، وتأخير ما رتبته التقديم كالفاعل ، نقل كل واحد منهما عن رتبته وحقه .
والصحيح أنه ليس منه ؛ فإن المجاز نقل ما وضع له إلى ما لم يوضع .
ويقع الكلام فيه في فصول
الفصل الأول
الأول : في أسبابه ، وهي كثيرة :
أحدها : أن يكون أصله التقديم ، ولا مقتضى للعدول عنه ، كتقديم الفاعل على المفعول ، والمبتدأ على الخبر ، وصاحب الحال عليها ، نحو : " جاء زيد راكبا " .
[ ص: 304 ] والثاني : أن يكون في التأخير إخلال ببيان المعنى ، كقوله تعالى : وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه ( غافر : 28 ) فإنه لو أخر قوله : من آل فرعون ( غافر : 28 ) عن قوله يكتم إيمانه لتوهم أنه من صفة ( يكتم ) فيكون المعنى : إن الرجل يكتم إيمانه من آل فرعون ، فلا يفهم أنه منهم .
وجعل السكاكي كقوله تعالى : من الأسباب كون التأخير مانعا مثل الإخلال بالمقصود ؛ وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ( المؤمنون : 33 ) بتقديم الحال أعني ( من قومه ) ( المؤمنون : 33 ) على الوصف أعني ( الذين كفروا ) ( المؤمنون : 33 ) ولو تأخر لتوهم أنه من صفة الدنيا ؛ لأنها هاهنا اسم تفضيل من الدنو وليست اسما ، والدنو يتعدى بـ " من " ، وحينئذ يشتبه الأمر في القائلين أنهم أهم من قومه أم لا ؟ فقدم لاشتمال التأخير على الإخلال ببيان المعنى المقصود ، وهو كون القائلين من قومه ، وحين أمن هذا الإخلال بالتأخير قال تعالى في موضع آخر من هذه السورة : فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم ( المؤمنون : 24 ) بتأخير المجرور عن صفة المرفوع .
الثالث : أن يكون في التأخير إخلال بالتناسب ، فيقدم لمشاكلة الكلام ولرعاية الفاصلة ، كقوله : واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون ( فصلت : : 37 ) بتقديم " إياه " على " تعبدون " ؛ لمشاكلة رءوس الآي ، وكقوله : فأوجس في نفسه خيفة موسى ( طه : 67 ) [ ص: 305 ] فإنه لو أخر ( في نفسه ) ( طه : 67 ) عن موسى ( طه : 67 ) فات تناسب الفواصل ؛ لأن قبله يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ( طه : 66 ) وبعده إنك أنت الأعلى ( طه : 68 ) .
وكقوله : وتغشى وجوههم النار ( إبراهيم : 50 ) فإن تأخير الفاعل عن المفعول لمناسبته لما بعده .
وكقوله : إن الله سريع الحساب ( إبراهيم : 51 ) وهو أشكل بما قبله ؛ لأن قبله مقرنين في الأصفاد ( إبراهيم : 49 ) .
وجعل منه السكاكي : آمنا برب هارون وموسى ( طه : 70 ) بتقديم هارون ( طه : 70 ) مع أن موسى ( طه : 70 ) أحق بالتقديم .
الرابع : لعظمه والاهتمام به ؛ وذلك أن من عادة العرب الفصحاء إذا أخبرت عن مخبر ما ، وأناطت به حكما ، وقد يشركه غيره في ذلك الحكم ، أو فيما أخبر به عنه ، وقد عطفت أحدهما على الآخر بالواو المقتضية عدم الترتيب ، فإنهم مع ذلك إنما يبدءون بالأهم والأولى ، قال : " كأنهم يقدمون الذي شأنه أهم لهم وهم ببيانه أعنى ، وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم . انتهى . سيبويه
قال تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فبدأ بالصلاة لأنها أهم .
وقال سبحانه وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ( التغابن : 12 ) .
[ ص: 306 ] وقال تعالى : فآمنوا بالله ورسوله ( الأعراف : 158 ) .
وقال تعالى : والله ورسوله أحق ( التوبة : 62 ) .
وقال تعالى : إياك نعبد وإياك نستعين ( الفاتحة : 5 ) فقدم العبادة للاهتمام بها .
ومنه تقدير المحذوف في ( بسم الله ) مؤخرا .
وأوردوا اقرأ باسم ربك ( العلق : 1 ) وأجيب بوجهين :
أحدهما : أن تقديم الفعل هناك أهم ؛ لأنها أول سورة نزلت .
والثاني أن ( باسم ربك ) ( العلق : 1 ) متعلق بـ ( اقرأ ) الثاني ، ومعنى الأول : أوجد القراءة ، والقصد التعميم .
الخامس : أن يكون الخاطر ملتفتا إليه ، والهمة معقودة به ، وذلك كقوله تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن ( الأنعام : 100 ) بتقديم المجرور على المفعول الأول ؛ لأن الإنكار متوجه إلى الجعل لله لا إلى مطلق الجعل .
السادس : أن يكون التقديم لإرادة التبكيت والتعجيب من حال المذكور ، كتقديم المفعول الثاني على الأول في قوله تعالى : وجعلوا لله شركاء الجن ( الأنعام : 100 ) والأصل : الجن شركاء ، وقدم لأن المقصود التوبيخ ، وتقديم ( الشركاء ) أبلغ في حصوله .
ومنه قوله تعالى في سورة يس : وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ( يس : 20 ) وسنذكره .
السابع : الاختصاص ، وذلك بتقديم المفعول والخبر والظرف والجار والمجرور ، [ ص: 307 ] ونحوها تقديم المفعول على الفعل ؛ كقوله تعالى : إياك نعبد ( الفاتحة : 5 ) أي : نخصك بالعبادة ، فلا نعبد غيرك .
وقوله : إن كنتم إياه تعبدون ( النحل : 114 ) أي : إن كنتم تخصونه بالعبادة .
والخبر كقوله تعالى : قال أراغب أنت عن آلهتي ( مريم : 46 ) وقوله : وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله ( الحشر : 2 ) .
وأما ففيه تفصيل ، فإن كان في الإثبات دل على الاختصاص ، كقوله تعالى : تقديم الظرف إن إلينا إيابهم ثم إن علينا حسابهم ( الغاشية : 25 - 26 ) وكذلك : له الملك وله الحمد ( التغابن : 1 ) فإن ذلك يفيد اختصاص ذلك بالله تعالى ، وقوله : لإلى الله تحشرون ( آل عمران : 158 ) أي : لا إلى غيره ، وقوله : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ( البقرة : 143 ) أخرت صلة الشهادة في الأول ، وقدمت في الثاني ؛ لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم .
وقوله : وأرسلناك للناس رسولا ( النساء : 79 ) أي : لجميع الناس من العجم والعرب على أن التعريف للاستغراق .
وإن كان في النفي فإن تقديمه يفيد تفضيل المنفي عنه ، كما في قوله تعالى : لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ( الصافات : 47 ) أي : ليس في خمر الجنة ما في خمرة غيرها من الغول .
وأما تأخيره فإنها تفيد النفي فقط ، كما في قوله : لا ريب فيه ( البقرة : 2 ) فكذلك إذا قلنا لا عيب في الدار ؛ كان معناه نفي العيب في الدار ، وإذا قلنا لا في الدار عيب . كان معناه : أنها تفضل على غيرها بعدم العيب .
[ ص: 308 ] تنبيه
ما ذكرناه من أن فهمه الشيخ تقديم المعمول يفيد الاختصاص ، أبو حيان في كلام وغيره ، والذي عليه محققو البيانيين أن ذلك غالب لا لازم ؛ بدليل قوله تعالى : الزمخشري كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ( الأنعام : 84 ) وقوله : أفي الله شك ( إبراهيم : 10 ) إن جعلنا ما بعد الظرف مبتدأ .
وقد رد صاحب " الفلك الدائر " القاعدة بالآية الأولى ، وكذلك والشيخ ابن الحاجب أبو حيان ، وخالفوا البيانيين في ذلك ، وأنت إذا علمت أنهم ذكروا في ذلك قيد الغلبة سهل الأمر ، نعم له شرطان :
أحدهما : ألا يكون المعمول مقدما بالوضع ؛ فإن ذلك لا يسمى تقديما حقيقة ، كاسم الاستفهام ، وكالمبتدأ عند من يجعله معمولا لخبره .
والثاني : ألا يكون التقديم لمصلحة التركيب ، مثل : وأما ثمود فهديناهم ( فصلت : 17 ) على قراءة النصب .
وقد اجتمع الاختصاص وعدمه في آية واحدة ، وهي قوله تعالى : أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ( الأنعام : 40 - 41 ) التقديم في الأول قطعا ليس للاختصاص بخلاف الثاني .