أحدها : كقوله - تعالى - : التنبيه على عظم القدرة ، هو الذي خلقكم من نفس واحدة ( الأعراف : 189 ) كناية عن آدم .
[ ص: 413 ] ثانيها : كقوله - تعالى - في قصة فطنة المخاطب ، داود : خصمان بغى بعضنا على بعض ( ص : 22 ) فكنى داود بخصم على لسان ملكين تعريضا .
وقوله في قصة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وزيد : ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ( الأحزاب : 40 ) أي زيد ولكن رسول الله ( الأحزاب : 40 ) .
وقوله - تعالى - : فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ( البقرة : 24 ) فإنه كناية عن ألا تعاندوا عند ظهور المعجزة ، فتمسكم هذه النار العظيمة .
وكذا قوله - تعالى - : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله ( البقرة : 23 ) .
وقوله - تعالى - : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ( يس : 8 ) الآيات ، فإن هذه تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - . والمعنى : لا تظن أنك مقصر في إنذارهم ؛ فإنا نحن المانعون لهم من الإيمان ، فقد جعلناهم حطبا للنار ؛ لنقوي التذاذ المؤمن بالنعيم ، كما لا تتبين لذة الصحيح إلا عند رؤية المريض .
ثالثها : كقوله - تعالى - : ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه ، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة ( ص : 23 ) فكنى بالنعجة عن المرأة ، كعادة العرب أنها تكني بها عن المرأة .
وقوله : إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة ( الأنفال : 16 ) كنى بالتحيز عن الهزيمة .
وقوله - تعالى - : إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم ( آل عمران : 90 ) كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر ؛ لأنه يرادفه .
رابعها : قال - تعالى - : أن يفحش ذكره في السمع ، فيكنى عنه بما لا ينبو عن الطبع ، وإذا مروا باللغو مروا كراما ( الفرقان : 72 ) أي كنوا عن لفظه ، ولم يوردوه على صيغته .
ومنه قوله - تعالى - في جواب قوم هود : إنا لنراك في سفاهة ( الأعراف : 66 ) [ ص: 414 ] قال ياقوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين ( الأعراف : 67 ) فكنى عن تكذيبهم بأحسن .
ومنه قوله : ولكن لا تواعدوهن سرا ( البقرة : 235 ) فكنى عن الجماع بالسر . وفيه لطيفة أخرى ، لأنه يكون من الآدميين في السر غالبا ، ولا يسره - ما عدا الآدميين - إلا الغراب . فإنه يسره ؛ ويحكى أن بعض الأدباء أسر إلى " " كلاما ، فقال : ليكن عندك أخفى من سفاد الغراب ، ومن الراء في كلام الألثغ ، فقال : نعم يا سيدنا ؛ ومن ليلة القدر ، وعلم الغيب . أبي علي الحاتمي
ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث ، والدخول ، والنكاح ، ونحوهن ، قال - تعالى - : فالآن باشروهن ( البقرة : 187 ) فكنى بالمباشرة عن الجماع لما فيه من التقاء البشرتين .
وقوله - تعالى - : أو لامستم النساء ( النساء : 43 ) إذ لا يخلوا الجماع عن الملامسة .
وقوله في الكناية عنهن : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ( البقرة : 187 ) واللباس من الملابسة ، وهي الاختلاط والجماع .
وكنى عنهن في موضع آخر بقوله : نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم ( البقرة : 223 ) .
وقوله - تعالى - : وراودته التي هو في بيتها ( يوسف : 23 ) كناية عما تطلب المرأة من الرجل .
وقوله - تعالى - : فلما تغشاها حملت حملا خفيفا ( الأعراف : 189 ) .
ومنه قوله - تعالى - في مريم وابنها : كانا يأكلان الطعام ( المائدة : 75 ) فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط ؛ لأنهما منه مسببان ، إذ لا بد للآكل منهما ، لكن استقبح في المخاطب ذكر الغائط ، فكنى به عنه .
فإن قيل : فقد صرح به في قوله - تعالى - : أو جاء أحد منكم من الغائط ( المائدة : 6 ) .
قلنا : لأنه جاء على خطاب العرب وما [ ص: 415 ] يألفون ؛ والمراد تعريفهم الأحكام ، فكان لا بد من التصريح به ؛ على أن الغائط أيضا كناية عن النجو ؛ وإنما هو في الأصل اسم للمكان المنخفض من الأرض ، وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى منخفض من الأرض ، فسمي منه لذلك ، ولكنه كثر استعماله في كلامهم ؛ فصار بمنزلة التصريح .
وما ذكرناه في قوله - تعالى - : كانا يأكلان الطعام ( المائدة : 75 ) هو المشهور وأنكره وقال بل الكلام على ظاهره ، ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نفس أكل الطعام ؛ لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله ، ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثا ، كذلك لا يجوز أن يكون طاعما ، قال الخفاجي : وهذا صحيح . الجاحظ ،
( ويقال لهما ) : الكناية عن الغائط فيه تشنيع وبشاعة على من اتخذها آلهة ، فأما قوله - تعالى - : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ( الفرقان : 20 ) فهو على حقيقته .
قال الوزير ابن هبيرة : وفي هذه الآية فضل العالم المتصدي للخلق على الزاهد المنقطع ، فإن النبي كالطبيب ، والطبيب يكون عند المرضى ، فلو انقطع عنهم هلكوا .
ومنه قوله - تعالى - : فجعلهم كعصف مأكول ( الفيل : 5 ) كنى به عن مصيرهم إلى العذرة ، فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك .
[ ص: 416 ] ، وقوله - تعالى - : وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا ( فصلت : 21 ) أي لفروجهم ، فكنى عنها بالجلود على ما ذكره المفسرون .
فإن قيل : فقد قال الله - تعالى - : والتي أحصنت فرجها ( الأنبياء : 91 ) فصرح بالفرج ؟ قلنا : أخطأ من توهم هنا الفرج الحقيقي ، وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها ، وهي كناية عن فرج القميص ، أي لم يعلق ثوبها ريبة ، فهي طاهرة الأثواب ، وفروج القميص أربعة : الكمان ، والأعلى ، والأسفل ، وليس المراد غير هذا ، فإن القرآن أنزه معنى ، وألطف إشارة ، وأملح عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل ، لاسيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس ، فأضيف القدس إلى القدوس ، ونزهت القانتة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس . ذكره صاحب التعريف والإعلام .
ومنه قوله - تعالى - : الخبيثات للخبيثين ( النور : 26 ) يريد الزناة . وقوله - تعالى - : ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ( الممتحنة : 12 ) فإنه كناية عن الزنا . وقيل : أراد طرح الولد على زوجها من غيره ؛ لأن بطنها بين يديها ورجليها وقت الحمل .
وقوله - تعالى - : يجعلون أصابعهم في آذانهم ( البقرة : 19 ) وإنما يوضع في الأذن السبابة فذكر الإصبع وهو الاسم العام أدبا ؛ لاشتقاقها من السب ، ألا تراهم كنوا عنها بالمسبحة ، والدعاءة ، وإنما يعبر بهما عنها لأنها ألفاظ مستحدثة . قاله . الزمخشري
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام : يمكن أن يقال أن ذكر [ ص: 417 ] الإصبع هنا جامع لأمرين : أحدهما : التنزه عن اللفظ المكروه ، والثاني : حط منزلة الكفار عن التعبير باللفظ المحمود ، والأعم يفيد المقصودين معا ، فأتى به وهو لفظ الإصبع ، وقد جاء في الحديث الأمر بالتعبير بالأحسن مكان القبيح كما جاء في حديث : من سبقه الحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه ويخرج أمر بذلك إرشادا إلى إيهام سبب أحسن من الحدث ، وهو الرعاف ، وهو أدب حسن من الشرع في ستر العورة وإخفاء القبيح ، وقد صح نهيه - عليه السلام - أن يقال : الكرم ، وقال : كره الشارع تسميتها بالكرم لأنها تعتصر منها أم الخبائث . إنما الكرم الرجل المسلم
وحديث : قيل : هو إشارة إلى القبلة ، وليس لفظ القبلة مستهجنا . كان يصيب من الرأس وهو صائم
وقوله : إياكم وخضراء الدمن .
[ ص: 418 ] خامسها : كقوله - تعالى - : تحسين اللفظ بيض مكنون ( الصافات : 49 ) فإن العرب كانت من عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض ، قال امرؤ القيس :
وبيضة خدر لا يرام خباؤها تمتعت من لهو بها غير معجل
.وقوله - تعالى - : وثيابك فطهر ( المدثر : 4 ) ومثله قول عنترة :
فشككت بالرمح الطويل ثيابه ليس الكريم على القنا بمحرم
سادسها : كقوله - تعالى - : قصد البلاغة أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ( الزخرف : 18 ) فإنه - سبحانه - كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ، ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك ؛ والمراد نفي حمل ذلك - أعني الأنوثة - عن الملائكة ، وكونهم بنات الله ؛ تعالى الله عن ذلك .
وقوله : فما أصبرهم على النار ( البقرة : 175 ) أي هم في التمثيل بمنزلة المتعجب منه بهذا التعجب .
سابعها : كقوله - تعالى - حكاية عن قصد المبالغة في التشنيع ، اليهود لعنهم الله : وقالت اليهود يد الله مغلولة ( المائدة : 64 ) فإن الغل كناية عن البخل ، كقوله - تعالى - : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ( الإسراء : 29 ) لأن جماعة كانوا متمولين ، فكذبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكف الله عنهم ما أعطاهم ، وهو سبب نزولها .
وأما قوله - تعالى - : غلت أيديهم ( المائدة : 64 ) فيحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة للفظ ، ولهذا قيل : إنهم أبخل خلق الله ، والحقيقة أنهم تغل أيديهم في الدنيا بالإسار ، وفي الآخرة بالعذاب وأغلال النار .
وقوله : بل يداه مبسوطتان ( المائدة : 64 ) [ ص: 419 ] كناية عن كرمه ، وثنى اليد وإن أفردت في أول الآية ، ليكون أبلغ في السخاء والجود .
ثامنها : كقوله - تعالى - : التنبيه على مصيره تبت يدا أبي لهب ( المسد : 1 ) أي جهنمي مصيره إلى اللهب .
وكقوله : حمالة الحطب ( المسد : 4 ) أي نمامة ومصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم .
تاسعها : ومنه الكناية عن أفعال متعددة بلفظ " فعل " ، كقوله - تعالى - : قصد الاختصار ، لبئس ما كانوا يفعلون ( المائدة : 79 ) ، ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به ( النساء : 66 ) ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ( البقرة : 24 ) أي فإن لم تأتوا بسورة من مثله ، ولن تأتوا .
عاشرها : فتعبر بها عن مقصودك ؛ وهذه الكناية استنبطها أن يعمد إلى جملة ورد معناها على خلاف الظاهر ، فيأخذ الخلاصة منها من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز ، وخرج عليها قوله - تعالى - : الزمخشري ، الرحمن على العرش استوى ( طه : 5 ) فإنه كناية عن الملك ؛ لأن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك ، فجعلوه كناية عنه .
وكقوله - تعالى - : والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ( الزمر : 67 ) الآية ، إنه كناية عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين : حقيقة ومجاز .
وقد اعترض الإمام فخر الدين على ذلك بأنها تفتح باب تأويلات الباطنية ، فلهم أن يقولوا : المراد من قوله : فاخلع نعليك ( طه : 12 ) الاستغراق في الخدمة من غير الذهاب إلى نعل وخلعه ، وكذا نظائره . انتهى .
وهذا مردود لأن الكناية إنما يصار إليها عند عدم إجراء اللفظ على ظاهره ، كما سبق من الأمثلة ، بخلاف خلع النعلين ونحوه .
تنبيهان
الأول : في أنه هذا ينبني على الخلاف السابق [ ص: 420 ] أنها مجاز أم لا . وقال هل يشترط في الكناية قرينة كالمجاز ؟ في قوله - تعالى - : الزمخشري ولا ينظر إليهم ( الآية : 77 ) في سورة آل عمران : إنه مجاز عن الاستهانة بهم ، والسخط عليهم ، تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه ، قال : وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ؛ لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه ، وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثم نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان ، مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر . انتهى .
وهذا بناء منه على مذهبه الفاسد في نفي الرؤية ؛ وفيه تصريح بأن الكناية مجاز وبه صرح في قوله - تعالى - : ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء ( البقرة : 235 ) . وصرح الشيخ في الدلائل بأن الكناية لا بد لها من قرينة . عبد القاهر الجرجاني
الثاني : قيل من عادة العرب أنها لا تكني عن الشيء بغيره ؛ إلا إذا كان يقبح ذكره ، وذكروا احتمالين في قوله : وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض ( النساء : 21 ) . أحدهما : أنه كنى بالإفضاء عن الإصابة . والثاني : أنه كنى عن الخلوة .
[ ص: 421 ] ورجحوا الأول ؛ لأن العرب إنما تكني عما يقبح ذكره في اللفظ ، ولا يقبح ذكر الخلوة . وهذا حسن لكنه يصلح للترجيح .
وأما دعوى كون العرب لا تكني إلا عما يقبح ذكره فغلط ، فكنوا عن القلب بالثوب ، كما في قوله - تعالى - : وثيابك فطهر ( المدثر : 4 ) وغير ذلك مما سبق .