لما بين سبحانه أن في الإنس من آمن ، وفيهم من كفر بين أيضا أن في الجن كذلك ، فقال : وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن العامل في الظرف مقدر : أي واذكر إذ صرفنا ، أي : وجهنا إليك نفرا من الجن وبعثناهم إليك ، وقوله : يستمعون القرآن في محل نصب صفة ثانية ل ( نفرا ) ، أو حال لأن النكرة قد تخصصت بالصفة الأولى [ ص: 1369 ] فلما حضروه أي حضروا القرآن عند تلاوته ، وقيل : حضروا النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ويكون في الكلام التفات من الخطاب إلى الغيبة ، والأول أولى قالوا أنصتوا أي قال بعضهم لبعض اسكتوا ، أمروا بعضهم بعضا بذلك لأجل أن يسمعوا فلما قضي قرأ الجمهور ( قضي ) مبنيا للمفعول : أي فرغ من تلاوته .
وقرأ حبيب بن عبيد الله بن الزبير ، ولاحق بن حميد ، وأبو مجلز على البناء للفاعل : أي فرغ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من تلاوته ، والقراءة الأولى تؤيد أن الضمير في حضروه للقرآن ، والقراءة الثانية تؤيد أنه للنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ولوا إلى قومهم منذرين أي انصرفوا قاصدين إلى ما وراءهم من قومهم منذرين لهم عن مخالفة القرآن ومحذرين لهم ، وانتصاب : ( منذرين ) على الحال المقدرة أي : مقدرين الإنذار ، وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وسيأتي في آخر البحث بيان ذلك .
قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى يعنون القرآن ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : فوصلوا إلى قومهم فقالوا يا قومنا .
قال عطاء : كانوا يهودا فأسلموا مصدقا لما بين يديه أي : لما قبله من الكتب المنزلة يهدي إلى الحق أي إلى الدين الحق وإلى طريق مستقيم أي إلى طريق الله القويم .
قال مقاتل : لم يبعث الله نبيا إلى الجن والإنس قبل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - .
ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يعنون محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - أو القرآن يغفر لكم من ذنوبكم أي : بعضها ، وهو ما عدا حق العباد ، وقيل إن ( من ) هنا لابتداء الغاية .
والمعنى : أنه يقع ابتداء الغفران من الذنوب ثم ينتهي إلى غفران ترك ما هو الأولى ، وقيل هي زائدة ويجركم من عذاب أليم وهو عذاب النار ، وفي هذه الآية دليل على أن حكم الجن حكم الإنس في الثواب والعقاب والتعبد بالأوامر والنواهي .
وقال الحسن وبه قال ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار ، أبو حنيفة .
والأول أولى ، وبه قال مالك ، ، والشافعي . وابن أبي ليلى
وعلى القول الأول ، فقال القائلون به أنهم بعد نجاتهم من النار يقال لهم : كونوا ترابا ، كما يقال للبهائم والثاني أرجح .
وقد قال الله سبحانه في مخاطبة الجن والإنس ولمن خاف مقام ربه جنتان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ الرحمن : 47 ، 46 ] فامتن سبحانه على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولا ينافي هذا الاقتصار هاهنا على ذكر إجارتهم من عذاب أليم ، ومما يؤيد هذا أن الله سبحانه قد جازى كافرهم بالنار وهو مقام عدل ، فكيف لا يجازي محسنهم بالجنة وهو مقام فضل ، ومما يؤيد هذا أيضا ما في القرآن الكريم في غير موضع أن جزاء المؤمنين الجنة ، وجزاء من عمل الصالحات الجنة ، وجزاء من قال " لا إله إلا الله " الجنة ، وغير ذلك مما هو كثير في الكتاب والسنة .
وقد اختلف أهل العلم ، وظاهر الآيات القرآنية أن الرسل من الإنس فقط كما في قوله : هل أرسل الله إلى الجن رسلا منهم أم لا وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى .
[ يوسف : 109 ] وقال : وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق [ الفرقان : 20 ] وقال سبحانه في إبراهيم الخليل : وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ، فكل نبي بعثه الله بعد إبراهيم فهو من ذريته ، وأما قوله تعالى في سورة الأنعام : يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم [ الأنعام : 130 ] فقيل المراد من مجموع الجنسين ، وصدق على أحدهما ، وهم الإنس : كقوله : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان أي : من أحدهما .
[ الرحمن : 22 ] ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض أي لا يفوت الله ولا يسبقه ، ولا يقدر على الهرب منه ؛ لأنه وإن هرب كل مهرب فهو في الأرض لا سبيل له إلى الخروج منها ، وفي هذا ترهيب شديد وليس له من دونه أولياء أي : أنصار يمنعونه من عذاب الله . بين سبحانه بعد استحالة نجاته بنفسه استحالة نجاته بواسطة غيره ، والإشارة بقوله : ( أولئك ) إلى ( من لا يجب داعي الله ) ، وأخبر أنهم في ضلال مبين أي : ظاهر واضح .
ثم ذكر سبحانه دليلا على البعث ، فقال : أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض الرؤية هنا هي القلبية التي بمعنى العلم والهمزة للإنكار ، والواو للعطف على مقدر : أي : ألم يتفكروا ، ولم يعلموا أن الذي خلق هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض ابتداء ولم يعي بخلقهن أي : لم يعجز عن ذلك ولا ضعف عنه ، يقال عي بالأمر وعيي : إذا لم يهتد لوجهه ، ومنه قول الشاعر :
عيوا بأمرهم كما عيت ببيضتها الحمامه
قرأ الجمهور ( ولم يعي ) بسكون العين وفتح الياء مضارع عيي .وقرأ الحسن بكسر العين وسكون الياء بقادر على أن يحيي الموتى قال أبو عبيدة ، والأخفش : الباء زائدة للتوكيد ، كما في قوله : وكفى بالله شهيدا .
قال ، الكسائي ، والفراء : العرب تدخل الباء مع الجحد والاستفهام ، فتقول : ما أظنك بقائم ، والجار والمجرور في محل رفع على أنهما خبر لأن ، وقرأ والزجاج ، ابن مسعود وعيسى بن عمر ، ، والأعرج والجحدري ، وابن أبي إسحاق ، ويعقوب ، ( يقدر ) على صيغة المضارع ، واختار وزيد بن علي ، أبو عبيدة القراءة الأولى ، واختار أبو حاتم القراءة الثانية قال : لأن دخول الباء في خبر " أن " قبيح بلى إنه على كل شيء قدير لا يعجزه شيء .
ويوم يعرض الذين كفروا على النار الظرف متعلق بقول مقدر : أي يقال ذلك اليوم للذين كفروا أليس هذا بالحق وهذه الجملة هي المحكية بالقول ، والإشارة بـ " هذا " إلى ما هو مشاهد لهم يوم عرضهم على النار ، وفي الاكتفاء بمجرد الإشارة من التهويل للمشار إليه والتفخيم لشأنه ما لا يخفى ، كأنه أمر لا يمكن التعبير عنه بلفظ يدل عليه قالوا بلى وربنا اعترفوا حين لا ينفعهم الاعتراف ، وأكدوا هذا الاعتراف بالقسم ؛ لأن المشاهدة هي [ ص: 1370 ] حق اليقين الذي لا يمكن جحده ولا إنكاره قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون أي بسبب كفركم بهذا في الدنيا وإنكاركم له ، وفي هذا الأمر لهم بذوق العذاب توبيخ بالغ وتهكم عظيم .
لما قرر سبحانه أمر رسوله بالصبر فقال : الأدلة على النبوة والتوحيد والمعاد فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل والفاء جواب شرط محذوف : أي : إذا عرفت ذلك وقامت عليه البراهين ولم ينجع في الكافرين فاصبر كما صبر أولو العزم : أي : أرباب الثبات والحزم فإنك منهم .
قال مجاهد : : أولو العزم من الرسل خمسة نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وهم أصحاب الشرائع .
وقال أبو العالية : هم نوح ، وهود ، وإبراهيم ، فأمر الله رسوله أن يكون رابعهم .
وقال : هم ستة السدي إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، وعيسى ، ومحمد - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وقيل نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، ولوط ، وموسى .
وقال : إن منهم ابن جريج إسماعيل ، ويعقوب ، وأيوب ، وليس منهم يونس .
وقال ، الشعبي والكلبي : هم الذين أمروا بالقتال ، فأظهروا المكاشفة ، وجاهدوا الكفرة ، وقيل هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام ، وهم ثمانية عشر : إبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، ونوح ، وداود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهارون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوط .
واختار هذا لقوله بعد ذكرهم : الحسين بن الفضل أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده [ الأنعام : 90 ] وقيل إن الرسل كلهم أولو العزم ، وقيل هم اثنا عشر نبيا إلى بني إسرائيل .
وقال الحسن : هم أربعة : إبراهيم ، وموسى ، وداود ، وعيسى
ولا تستعجل لهم أي لا تستعجل العذاب يا محمد للكفار .
لما أمره سبحانه بالصبر ، ونهاه عن استعجال العذاب لقومه رجاء أن يؤمنوا قال : كأنهم يوم يرون ما يوعدون من العذاب لم يلبثوا إلا ساعة من نهار أي : كأنهم يوم يشاهدونه في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا قدر ساعة من ساعات الأيام لما يشاهدونه من الهول العظيم والبلاء المقيم .
قرأ الجمهور ( بلاغ ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف : أي : هذا الذي وعظتهم به بلاغ ، أو تلك الساعة بلاغ ، أو هذا القرآن بلاغ ، أو هو مبتدأ ، والخبر لهم الواقع بعد قوله : ولا تستعجل أي : لهم بلاغ ، وقرأ الحسن ، وعيسى بن عمر ، ( بلاغا ) بالنصب على المصدر : أي بلغ بلاغا ، وقرأ أبو مجلز ( بلغ ) بصيغة الأمر . وقرئ ( بلغ ) بصيغة الماضي وزيد بن علي ، فهل يهلك إلا القوم الفاسقون قرأ الجمهور ( فهل يهلك ) على البناء للمفعول .
وقرأ ابن محيصن على البناء للفاعل ، والمعنى : أنه لا يهلك بعذاب الله إلا القوم الخارجون عن الطاعة الواقعون في معاصي الله .
قال قتادة : لا يهلك على الله إلا هالك مشرك .
قيل : وهذه الآية أقوى آية في الرجاء .
قال : تأويله لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون . الزجاج
وقد أخرج ، ابن أبي شيبة وابن منيع ، والحاكم ، وصححه ابن مردويه ، وأبو نعيم ، والبيهقي كلاهما في الدلائل عن قال : هبطوا ، يعني الجن على النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة ، فلما سمعوه قالوا : أنصتوا ، قالوا صه ، وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله : ابن مسعود وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن إلى قوله : ( ضلال مبين ) .
وأخرج أحمد ، ، وابن جرير وابن مردويه ، عن الزبير وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن قال : بنخلة ، ورسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يصلي العشاء الآخرة كادوا يكونون عليه لبدا [ الجن : 19 ]
وأخرج ، ابن جرير ، والطبراني وابن مردويه وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن الآية . قال كانوا تسعة نفر من أهل نصيبين فجعلهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - رسلا إلى قومهم .
وأخرج ، ابن جرير وابن المنذر ، وابن مردويه ، وأبو نعيم نحوه أيضا قال : صرفت الجن إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مرتين وكانوا أشراف الجن بنصيبين .
وأخرج ، البخاري ومسلم ، وغيرهما ، عن مسروق قال : سألت من آذن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بالجن ليلة استمعوا القرآن ؟ قال : آذنته بهم شجرة . ابن مسعود
وأخرج ، عبد بن حميد وأحمد ، ومسلم ، عن والترمذي ، علقمة قال : قلت : لابن مسعود ؟ قال : ما صحبه منا أحد ، ولكنا فقدناه ذات ليلة ، فقلنا اغتيل ، استطير ، ما فعل ؟ قال : فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما كان في وجه الصبح إذا نحن به يجيء من قبل حراء ، فأخبرناه ، فقال : إنه أتاني داعي الجن ، فأتيتهم ، فقرأت عليهم القرآن ، فانطلق ، فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم هل صحب رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منكم أحدا ليلة الجن .
وأخرج أحمد ، عن قال : كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ليلة الجن . ابن مسعود
وقد روي نحو هذا من طرق .
والجمع بين الروايات بالحمل على قصتين وقعت منه - صلى الله عليه وآله وسلم - مع الجن حضر إحداهما ولم يحضر في الأخرى . ابن مسعود ،
وقد وردت أحاديث كثيرة أن الجن بعد هذا وفدت على رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - مرة بعد مرة وأخذوا عنه الشرائع .
وأخرج ، ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن قال : ابن عباس أولو العزم من الرسل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ونوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى .
وأخرج ابن مردويه عنه قال : هم الذين أمروا بالقتال حتى مضوا على ذلك نوح ، وهود ، وصالح ، وموسى ، وداود ، وسليمان ، .
وأخرج ابن مردويه ، عن قال : بلغني أن أولي العزم من الرسل كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر . جابر بن عبد الله
وأخرج ، ابن أبي حاتم والديلمي ، عن عائشة قالت : ظل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - صائما ثم طوى ، ثم ظل صائما ، ثم طوى ، ثم ظل صائما قال : يا عائشة إن الدين لا ينبغي لمحمد ولا لآل محمد ، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم من الرسل إلا بالصبر على مكروهها والصبر عن محبوبها ، ثم لم يرض مني إلا أن يكلفني ما كلفهم ، فقال : فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل وإني والله لأصبرن كما صبروا جهدي ، ولا قوة إلا بالله .