أمر الله سبحانه نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يسأل الكفار عن أمور لا عذر لهم من الاعتراف فيها ، ثم أمره أن ينكر عليهم بعد الاعتراف منهم ويوبخهم فقال : قل لمن الأرض ومن فيها أي قل يا محمد لأهل مكة هذه المقالة ، والمراد بمن في الأرض الخلق جميعا ، وعبر عنهم بمن تغليبا للعقلاء إن كنتم تعلمون شيئا من العلم ، وجواب الشرط محذوف أي : إن كنتم تعلمون فأخبروني . وفي هذا تلويح بجهلهم وفرط غباوتهم .
سيقولون لله أي لا بد لهم أن يقولوا ذلك ؛ لأنه معلوم ببديهة العقل ، ثم أمره سبحانه أن يقول لهم بعد اعترافهم أفلا تذكرون ترغيبا لهم في التدبر وإمعان النظر والفكر ، فإن ذلك مما يقودهم إلى اتباع الحق وترك الباطل ؛ لأن من قدر على ذلك ابتداء قدر على إحياء الموتى .
قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله جاء سبحانه باللام نظرا إلى معنى السؤال ، فإن قولك : من ربه ، ولمن هو في معنى واحد ، كقولك : من رب هذه الدار ؟ فيقال زيد ، ويقال لزيد .
وقرأ أبو عمرو وأهل العراق ( سيقولون الله ) بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال ، وهذه القراءة أوضح من قراءة الباقين باللام ، ولكنه يؤيد قراءة الجمهور أنها مكتوبة في جميع المصاحف باللام بدون ألف .
وهكذا في قوله : قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله باللام نظرا إلى معنى السؤال كما سلف .
وقرأ أبو عمرو وأهل العراق بغير لام نظرا إلى لفظ السؤال ، ومثل هذا قول الشاعر :
إذا قيل من رب المزالف والقرى ورب الجياد الجرد قيل لخالد
أي لمن المزالف ، والملكوت الملك ، وزيادة التاء للمبالغة ، نحو جبروت ورهبوت ، ومعنى وهو يجير أنه يغيث غيره إذا شاء ويمنعه ولا يجار عليه أي لا يمنع أحد أحدا من عذاب الله ولا يقدر على نصره وإغاثته ، يقال أجرت فلانا : إذا استغاث بك فحميته ، وأجرت عليه : إذا حميت عنه .قل فأنى تسحرون قال الفراء أي : تصرفون عن الحق وتخدعون ، والمعنى : كيف يخيل لكم الحق باطلا والصحيح فاسدا ، والخادع لهم هو الشيطان أو الهوى أو كلاهما . والزجاج
ثم بين سبحانه أنه قد بالغ في الاحتجاج عليهم فقال : بل أتيناهم بالحق أي الأمر الواضح الذي يحق اتباعه وإنهم لكاذبون فيما ينسبونه إلى الله سبحانه من الولد والشريك .
ثم نفاهما عن نفسه فقال : ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله من في الموضعين زائدة لتأكيد النفي .
ثم بين سبحانه ما يستلزمه ما يدعيه الكفار مع إثبات الشريك ، فقال : إذا لذهب كل إله بما خلق وفي الكلام حذف تقديره ولو كان مع الله آلهة لانفرد كل إله بخلقه واستبد به وامتاز ملكه عن ملك الآخر ، ووقع بينهم التطالب والتحارب والتغالب ولعلا بعضهم على بعض أي غلب القوي على الضعيف وقهره وأخذ ملكه كعادة الملوك من بني آدم ، وحينئذ فذلك الضعيف المغلوب لا يستحق أن يكون إلها ، وإذا تقرر عدم إمكان المشاركة في ذلك ، وأنه لا يقوم به إلا واحد تعين أن يكون هذا الواحد هو الله سبحانه ، وهذا الدليل كما دل على نفي الشريك فإنه يدل على نفي الولد ؛ لأن الولد ينازع أباه في ملكه .
ثم نزه سبحانه نفسه فقال : سبحان الله عما يصفون أي من الشريك والولد وإثبات ذلك لله عز وجل .
عالم الغيب والشهادة أي هو مختص بعلم الغيب والشهادة ، وأما غيره فهو وإن علم الشهادة لا يعلم الغيب .
قرأ نافع وأبو بكر وحمزة ( عالم ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : هو عالم . والكسائي
وقرأ الباقون بالجر على أنه صفة لله أو بدل منه .
وروي عن يعقوب أنه كان يخفض إذا وصل ويرفع إذا ابتدأ فتعالى الله عما يشركون معطوف على معنى ما تقدم كأنه قال : عالم الغيب فتعالى ، كقولك : زيد شجاع فعظمت منزلته أي : شجع فعظمت ، أو يكون على إضمار القول أي : أقول فتعالى الله ، والمعنى : أنه سبحانه متعال عن أن يكون له شريك في الملك .
قل رب إما تريني ما يوعدون أي إن كان ولا بد أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل لهم .
رب فلا تجعلني في القوم الظالمين أي قل يا رب فلا تجعلني .
قال أي : إن أنزلت بهم النقمة يا رب فاجعلني خارجا عنهم ، ومعنى كلامه هذا أن النداء معترض ، وما في إما زائدة أي : قل رب إن تريني ، والجواب فلا تجعلني ، وذكر الرب مرتين مرة قبل الشرط : ومرة بعده مبالغة في التضرع . الزجاج
وأمره الله أن يسأله أن لا يجعله في القوم الظالمين مع أن الأنبياء لا يكونون مع القوم الظالمين أبدا ؛ تعليما له - صلى الله عليه وآله وسلم - من ربه كيف يتواضع ؟ وقيل : يهضم نفسه ، أو لكون شؤم الكفر قد يلحق من لم يكن من أهله كقوله : واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة .
[ ص: 992 ] ثم لما كان المشركون ينكرون العذاب ويسخرون من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذا ذكر لهم ذلك أكد سبحانه وقوعه بقوله : وإنا على أن نريك ما نعدهم لقادرون أي أن الله سبحانه قادر على أن يري رسوله عذابهم ، ولكنه يؤخره لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ، أو لكون الله سبحانه لا يعذبهم والرسول فيهم ، وقيل : قد أراه الله سبحانه ذلك يوم بدر ويوم فتح مكة .
ثم أمره سبحانه بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب فقال : ادفع بالتي هي أحسن السيئة أي ادفع بالخصلة التي هي أحسن من غيرها ، وهي الصفح والإعراض عما يفعله الكفار من الخصلة السيئة وهي الشرك .
قيل : وهذه الآية منسوخة بآية السيف ، وقيل : هي محكمة في حق هذه الأمة فيما بينهم ، منسوخة في حق الكفار نحن أعلم بما يصفون أي ما يصفونك به مما أنت على خلافه ، أو بما يصفون من الشرك والتكذيب ، وفي هذا وعيد لهم بالعقوبة .
ثم علمه سبحانه ما يقويه على ما أرشده إليه من العفو والصفح ومقابلة السيئة بالحسنة فقال : وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين الهمزات جمع همزة ، وهي في اللغة الدفعة باليد أو بغيرها ، وهمزات الشياطين نزغاتهم ووساوسهم كما قاله المفسرون ، يقال همزه ولمزه ونخسه أي : دفعه ، وقيل : الهمز كلام من وراء القفا ، واللمز المواجهة ، وفيه إرشاد لهذه الأمة إلى ، ومن همزات الشياطين سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه . التعوذ من الشيطان
وأعوذ بك رب أن يحضرون أمره سبحانه أن يتعوذ بالله من حضور الشياطين بعد ما أمره أن يتعوذ من همزاتهم ، والمعنى : وأعوذ بك أن يكونوا معي في حال من الأحوال ، فإنهم إذا حضروا الإنسان لم يكن لهم عمل إلا الوسوسة والإغراء على الشر والصرف عن الخير .
وفي قراءة أبي ( وقل رب عائذا بك من همزات الشياطين وعائذا بك رب أن يحضرون ) .
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : قل من بيده ملكوت كل شيء قال : خزائن كل شيء .
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه ادفع بالتي هي أحسن السيئة يقول : أعرض عن أذاهم إياك : وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن وابن أبي حاتم عطاء ادفع بالتي هي أحسن قال : بالسلام .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية عن أنس في قوله : ادفع بالتي هي أحسن السيئة قال : قول الرجل لأخيه ما ليس فيه ، فيقول إن كنت كاذبا فأنا أسأل الله أن يغفر لك ، وإن كنت صادقا فأنا أسأل الله أن يغفر لي .
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود وحسنه والترمذي والنسائي والبيهقي في الأسماء والصفات عن عن أبيه عن جده قال : عمرو بن شعيب : بسم الله أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون كلمات نقولهن عند النوم من الفزع . كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلمنا
قال : فكان يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه . عبد الله بن عمرو
وفي إسناده محمد بن إسحاق ، وفيه مقال معروف وأخرج أحمد الوليد بن الوليد أنه قال يا رسول الله إني أجد وحشة ، قال : إذا أخذت مضجعك فقل : أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون ، فإنه لا يحضرك وبالحري لا يضرك . عن