لما ذكر سبحانه أن الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - كان في بلية عظيمة من قومه ومحنة شديدة أراد أن يبين أن جميع الأنبياء كانوا كذلك ، حتى أن هذه عادة قديمة سنها إبليس اللعين ، وأيضا لما ذكر أن الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة ، أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه ، ذكر هاهنا ما يحقق ذلك فقال : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم هذه القصة قد ذكرها الله سبحانه في سبعة مواضع : في البقرة ، والأعراف ، والحجر ، وهذه السورة ، والكهف ، وطه ، وص ، وقد تقدم تفسيرها مبسوطا ، فلنقتصر هاهنا على تفسير ما لم يتقدم ذكره من الألفاظ ، فقوله : طينا ، منتصب بنزع [ ص: 832 ] الخافض أي : من طين ، أو على الحال .
قال : المعنى لمن خلقته طينا ، وهو منصوب على الحال . الزجاج
أرأيتك أي : أخبرني عن هذا الذي فضلته علي لم فضلته ؟ وقد خلقتني من نار وخلقته من طين [ الأعراف : 12 ] فحذف هذا للعلم به لأحتنكن ذريته أي : لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال ، قال الواحدي : أصله من احتناك الجراد الزرع ، وهو أن تستأصله بأحناكها وتفسده ، هذا هو الأصل ، ثم سمي الاستيلاء على الشيء وأخذه كله احتناكا ، وقيل : معناه : لأسوقنهم حيث شئت ، وأقودنهم حيث أردت ، من قولهم : حنكت الفرس أحنكه حنكا : إذا جعلت في فيه الرسن ، والمعنى الأول أنسب بمعنى هذه الآية ، ومنه قول الشاعر :
أشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا وأصعقت
واحتنكت أموالنا واختلفت
أي : استأصلت أموالنا ، واللام في : ( لئن أخرتن ) ، هي الموطئة ، وإنما أقسم اللعين هذا القسم على أنه سيفعل بذرية آدم ما ذكره لعلم قد سبق إليه من سمع استرقه ، أو قاله لما ظنه من قوة نفوذ كيده في بني آدم ، وأنه يجري منهم في مجاري الدم ، وأنهم بحيث يروج عندهم كيده وتنفق لديهم وسوسته إلا من عصم الله ، وهم المرادون بقوله : ( إلا قليلا ) . وفي معنى هذا الاستثناء قوله سبحانه : إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ويؤيد ما ذكرناه قوله تعالى : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه [ سبأ : 20 ] فإنه يفيد أنه قال ما قاله هنا اعتمادا على الظن ، وقيل : إنه استنبط ذلك من قول الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها [ البقرة : 30 ] ، وقيل : علم ذلك من طبع البشر لما ركب فيهم من الشهوات ، أو ظن ذلك لأنه وسوس لآدم ، فقبل منه ذلك ولم يجد له عزما ، كما روي ، عن الحسن .قال اذهب فمن تبعك منهم أي : أطاعك فإن جهنم جزاؤكم أي : إبليس ومن أطاعه جزاء موفورا أي : وافرا مكملا ، يقال : وفرته أفره وفرا ، ووفر المال بنفسه يفر وفورا ، فهو وافر ، فهو مصدر ، ومنه قول زهير :
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ثم كرر سبحانه الإمهال لإبليس اللعين فقال : واستفزز من استطعت منهم بصوتك أي : استزعج واستخف من استطعت من بني آدم ، يقال : أفزه واستفزه أي : أزعجه واستخفه ، والمعنى : استخفهم بصوتك داعيا لهم إلى معصية الله ، وقيل : هو الغناء واللهو واللعب والمزامير وأجلب عليهم بخيلك ورجلك قال الفراء وأبو عبيدة : أجلب من الجلبة والصياح أي : صح عليهم .
وقال أي : اجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك . الزجاج
فالإجلاب الجمع ، والباء في : ( بخيلك ) . زائدة .
وقال : الإجلاب الإعانة ، والخيل تقع على الفرسان كقوله - صلى الله عليه وآله وسلم - : ابن السكيت وتقع على الأفراس ، والرجل بسكون الجيم جمع راجل كتاجر وتجر ، وصاحب وصحب ، وقرأ حفص بكسر الجيم على أنه صفة . يا خيل الله اركبي
قال أبو زيد : يقال : رجل ورجل ، بمعنى راجل ، فالخيل والرجل كناية عن جميع مكايد الشيطان ، أو المراد كل راكب وراجل في معصية الله وشاركهم في الأموال والأولاد أما المشاركة في الأموال ، فهي كل تصرف فيها يخالف وجه الشرع ، سواء كان أخذا من غير حق ، أو وضعا في غير حق كالغصب والسرقة والربا .
ومن ذلك تبتيك آذان الأنعام وجعلها بحيرة وسائبة ، والمشاركة في الأولاد دعوى الولد بغير سبب شرعي ، وتحصيله بالزنا وتسميتهم بعبد اللات وعبد العزى ، والإساءة في تربيتهم على وجه يألفون فيه خصال الشر وأفعال السوء ، ويدخل فيه ما قتلوا من أولادهم خشية إملاق ، ووأد البنات وتصيير أولادهم على الملة الكفرية التي هم عليها ، ومن ذلك مشاركة الشيطان للمجامع إذا لم يسم ، ثم قال : ( وعدهم ) قال الفراء : قل لهم لا جنة ولا نار .
وقال : وعدهم بأنهم لا يبعثون الزجاج وما يعدهم الشيطان إلا غرورا أي : باطلا ، وأصل الغرور تزيين الخطأ بما يوهم الصواب ، وقيل : معناه : وعدهم النصرة على من خالفهم ، وهذه الأوامر للشيطان من باب التهديد والوعيد الشديد ، وقيل : هي على طريقة الاستخفاف به وبمن تبعه .
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان يعني عباده المؤمنين كما في غير هذا الموضع من الكتاب العزيز من أن إضافة العباد إليه يراد بها المؤمنون ؛ لما في الإضافة من التشريف ، وقيل : المراد جميع العباد بدليل الاستثناء بقوله في غير هذا الموضع إلا من اتبعك من الغاوين [ الحجر : 42 ] ، والمراد بالسلطان التسلط وكفى بربك وكيلا يتوكلون عليه ، فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه .
وقد أخرج ، عن ابن أبي حاتم قال : قال إبليس : إن ابن عباس آدم خلق من تراب من طين ، خلق ضعيفا ، وإني خلقت من نار ، والنار تحرق كل شيء لأحتنكن ذريته إلا قليلا فصدق ظنه عليهم .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه وابن أبي حاتم لأحتنكن ذريته قال : لأستولين .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن مجاهد لأحتنكن ذريته قال : لأحتوينهم .
وأخرج ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم ابن زيد قال : لأضلنهم .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد ( موفورا ) قال : وافرا .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس واستفزز من استطعت منهم بصوتك قال : صوته كل داع دعا إلى معصية الله وأجلب عليهم بخيلك قال : كل راكب في معصية الله ( ورجلك ) قال : كل راجل في معصية الله وشاركهم في الأموال قال : كل مال في معصية الله ( والأولاد ) قال : كل ما قتلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام .
وأخرج الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه في الآية قال : كل خيل تسير في معصية الله ، وكل مال أخذ بغير حقه ، وكل ولد زنا .
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن في الآية قال : ( ابن عباس الأموال ) ما كانوا يحرمون من أنعامهم والأولاد أولاد [ ص: 833 ] الزنا .
وأخرج عنه أيضا قال : ( الأموال ) البحيرة والسائبة والوصيلة لغير الله ( والأولاد ) سموا ابن جرير عبد الحارث وعبد شمس .