سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا .
قوله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا هو مصدر سبح ، يقال سبح يسبح تسبيحا وسبحانا ، مثل كفر اليمين تكفيرا وكفرانا ، ومعناه التنزيه والبراءة لله من كل نقص .
وقال : العامل فيه فعل لا من لفظه ، والتقدير أنزه الله تنزيها ، فوقع سبحانه مكان تنزيها ، فهو على هذا مثل قعد القرفصاء واشتمل الصماء ، وقيل : هو علم للتسبيح كعثمان للرجل ، وانتصابه بفعل مضمر متروك إظهاره تقديره أسبح الله سبحان ، ثم نزل منزلة الفعل وسد مسده وقد قدمنا في قوله : سيبويه سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا طرفا من الكلام المتعلق بسبحان .
والإسراء قيل : هو سير الليل ، يقال سرى وأسرى : كسقى وأسقى لغتان ، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله : .
حي النضير وربة الخدر أسرت إلي ولم تكن تسري
.وقيل : هو سير أول الليل خاصة ، وإذا كان الإسراء لا يكون إلا في الليل فلا بد للتصريح بذكر الليل بعده من فائدة ، فقيل أراد بقوله ( ليلا ) تقليل مدة الإسراء وأنه أسرى به في بعض الليل من مكة إلى الشام مسافة أربعين ليلة .
ووجه دلالة ( ليلا ) على تقليل المدة ما فيه من التنكير الدال على البعضية ، بخلاف ما إذا قلت سريت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعا .
وقد استدل صاحب الكشاف على إفادة ( ليلا ) للبعضية بقراءة عبد الله ، وحذيفة ( من الليل ) .
وقال : معنى أسرى بعبده ليلا سير عبده ، يعني الزجاج محمدا ليلا وعلى هذا فيكون معنى أسرى معنى سير فيكون للتقييد بالليل فائدة ، وقال ( بعبده ) ولم يقل بنبيه أو رسوله أو بمحمد تشريفا له - صلى الله عليه وسلم - قال أهل العلم : لو كان غير هذا الاسم أشرف منه لسماه الله سبحانه به في هذا المقام العظيم والحالة العلية :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
ادعاء بأسماء نبزا في قبائلها كأن أسماء أضحت بعض أسمائي
من المسجد الحرام قال الحسن ، وقتادة : يعني المسجد نفسه وهو ظاهر القرآن .
وقال عامة المفسرين : أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من دار أم هانئ ، فحملوا المسجد الحرام على مكة أو الحرام لإحاطة كل واحد منهما بالمسجد الحرام ، أو لأن الحرم كله مسجد .
ثم ذكر سبحانه الغاية التي أسرى برسوله - صلى الله عليه وسلم - إليها فقال : إلى المسجد الأقصى وهو بيت المقدس ، وسمي الأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام ولم يكن حينئذ وراءه مسجد ، ثم وصف المسجد الأقصى بقوله : الذي باركنا حوله بالثمار والأنهار والأنبياء والصالحين ، فقد بارك الله سبحانه حول [ ص: 810 ] المسجد الأقصى ببركات الدنيا والآخرة ، وفي ( باركنا ) بعد قوله ( أسرى ) التفات من الغيبة إلى التكلم .
ثم ذكر العلة التي أسرى به لأجلها فقال : لنريه من آياتنا أي ما أراه الله سبحانه في تلك الليلة من العجائب التي من جملتها قطع هذه المسافة الطويلة في جزء من الليل إنه سبحانه هو السميع بكل مسموع ، ومن جملة ذلك قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : البصير بكل مبصر ، ومن جملة ذلك ذات رسوله وأفعاله .
وقد اختلف أهل العلم ؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول . هل كان الإسراء بجسده - صلى الله عليه وسلم - مع روحه أو بروحه فقط
وذهب إلى الثاني طائفة من أهل العلم منهم عائشة ومعاوية ، والحسن ، وابن إسحاق وحكاه عن ابن جرير . حذيفة بن اليمان
وذهبت طائفة إلى التفصيل فقالوا : كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس وإلى السماء بالروح ، واستدلوا على هذا التفصيل بقوله إلى المسجد الأقصى ، فجعله غاية للإسراء بذاته - صلى الله عليه وسلم - فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره ، والذي دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس ، ثم إلى السماوات ، ولا حاجة إلى التأويل وصرف هذا النظم القرآني وما يماثله من ألفاظ الأحاديث إلى ما يخالف الحقيقة ، ولا مقتضى لذلك إلا مجرد الاستبعاد وتحكيم محض العقول القاصرة عن فهم ما هو معلوم من أنه لا يستحيل عليه سبحانه شيء ، ولو كان ذلك مجرد رؤيا كما يقوله من زعم أن الإسراء كان بالروح فقط ، وأن حق لم يقع التكذيب من الكفرة للنبي - صلى الله عليه وسلم - عند إخباره لهم بذلك حتى ارتد من ارتد ممن لم يشرح بالإيمان صدرا ، فإن الإنسان قد يرى في نومه ما هو مستبعد ، بل ما هو محال ولا ينكر ذلك أحد ، وأما التمسك لمن قال بأن هذا الإسراء إنما كان بالروح على سبيل الرؤيا بقوله رؤيا الأنبياء وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس فعلى تسليم أن المراد بهذه الرؤيا هو هذا الإسراء ، فالتصريح الواقع هنا بقوله : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا والتصريح في الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأنه أسري به لا تقصر عن الاستدلال بها على تأويل هذه الرؤيا الواقعة في الآية برؤية العين ، فإنه قد يقال لرؤية العين رؤيا ، وكيف يصح حمل هذا الإسراء على الرؤيا مع تصريحه - صلى الله عليه وسلم - بأنه كان عند أن أسري به بين النائم واليقظان .
وقد اختلف أيضا في فروي أن ذلك كان قبل الهجرة إلى تاريخ الإسراء ، المدينة بسنة ، وروي أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام .
ووجه ذلك أن صلت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين ، وقيل : بثلاث ، وقيل : بأربع ، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء . خديجة
وقد استدل بهذا على ذلك ، وقد اختلفت الرواية عن ابن عبد البر . الزهري
وممن قال بأن الإسراء كان قبل الهجرة بسنة في رواية عنه ، وكذلك الزهري الحربي فإنه قال : أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة .
وقال ابن القاسم في تاريخه : كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية عشر شهرا .
قال : لا أعلم أحدا من أهل السير قال بمثل هذا . ابن عبد البر
وروي عن أنه أسري به قبل مبعثه بسبعة أعوام ، وروي عنه أنه قال : كان قبل مبعثه بخمس سنين . الزهري
وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت : توفيت قبل أن تفرض الصلاة . خديجة
وآتينا موسى الكتاب أي التوراة ، قيل والمعنى : كرمنا محمدا بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب وجعلناه أي ذلك الكتاب ، وقيل : موسى هدى لبني إسرائيل يهتدون به ألا تتخذوا قرأ أبو عمرو بالياء التحتية ، وقرأ الباقون بالفوقية ، أي : لئلا يتخذوا .
والمعنى : آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا من دوني وكيلا قال الفراء ، أي : كفيلا بأمورهم ، وروي عنه أنه قال كافيا ، وقيل : معناه ، أي : متوكلون عليه في أمورهم ، وقيل : شريكا ، ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور .
ذرية من حملنا مع نوح نصب على الاختصاص أو النداء ذكرهم سبحانه إنعامه عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق ، ويجوز أن يكون المفعول الأول لقوله أن لا تتخذوا أي لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح من دوني وكيلا كقوله : ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من فاعل ( تتخذوا ) .
وقرأ مجاهد بفتح الذال . وقرأ بكسرها ، والمراد بالذرية هنا جميع من في الأرض لأنهم من ذرية من كان في السفينة ، وقيل : زيد بن ثابت موسى وقومه من بني إسرائيل وهذا هو المناسب لقراءة النصب على النداء . والنصب على الاختصاص ، والرفع على البدل وعلى الخبر فإنها كلها راجعة إلى بني إسرائيل المذكورين وأما على جعل النصب على أن ( ذرية ) هي المفعول الأول لقوله ( لا تتخذوا ) ، فالأولى تفسير الذرية بجميع من في الأرض من بني آدم إنه كان عبدا شكورا أي نوحا ، وصفه الله بكثرة الشكر وجعله كالعلة لما قبله إيذانا بكون الشكر من أعظم أسباب الخير ، ومن أفضل الطاعات حثا لذريته على شكر الله سبحانه .
وقد أخرج ابن مردويه عن عن أبيه عن جده . قال : أسري بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة سبع عشرة من شهر ربيع الأول قبل الهجرة بسنة . عمرو بن شعيب
وأخرج البيهقي في الدلائل عن قال : أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدس قبل خروجه إلى المدينة بسنة . ابن شهاب
وأخرج البيهقي عن عروة مثله .
وأخرج البيهقي أيضا عن قال : أسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مهاجره بستة عشر شهرا . السدي
وأخرج ابن أبي [ ص: 811 ] حاتم عن في قوله : السدي الذي باركنا حوله قال : أنبتنا حوله الشجر .
وأخرج ، ابن جرير عن وابن أبي حاتم قتادة في قوله : وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل قال : جعله الله هدى يخرجهم من الظلمات إلى النور وجعله رحمة لهم .
وأخرج ، ابن أبي شيبة ، وابن جرير وابن المنذر ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : ألا تتخذوا من دوني وكيلا قال : شريكا .
وأخرج عنه في قوله : ابن أبي حاتم ذرية من حملنا مع نوح . قال : هو على النداء يا ذرية من حملنا مع نوح .
وأخرج ابن مردويه عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن زيد الأنصاري ذرية من حملنا مع نوح ما كان مع نوح إلا أربعة أولاد : حام ، وسام ، ويافث ، وكوش ، فذلك أربعة أولاد انتسلوا هذا الخلق .
واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كابن كثير ، والسيوطي وغيرهما في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها ، وليس في ذلك كثير فائدة ، فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث ، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، وهو مبحث آخر ، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز ، وذكر أسباب النزول ، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية ، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه حاجة .