قوله : ولو أن قرآنا سيرت به الجبال قيل : هذا متصل بقوله : لولا أنزل عليه آية من ربه [ الرعد : 7 ] ، وإن جماعة من الكفار سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يسير لهم جبال مكة حتى تنفسح فإنها أرض ضيقة ، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم بهذا الجواب المتضمن لتعظيم شأن القرآن وفساد رأي الكفار حيث لم يقنعوا به وأصروا على تعنتهم وطلبهم ما لو فعله الله سبحانه لم يبق ما تقتضيه الحكمة الإلهية من عدم إنزال الآيات التي يؤمن عندها جميع العباد .
ومعنى سيرت به الجبال ، أي : بإنزاله وقراءته فسارت عن محل استقرارها أو قطعت به الأرض أي صدعت حتى صارت قطعا متفرقة أو كلم به الموتى أي صاروا أحياء بقراءته عليهم ، فكانوا يفهمونه عند تكليمهم به كما يفهمه الأحياء .
وقد اختلف في جواب ( لو ) ماذا هو ؟ فقال الفراء : هو محذوف ، وتقديره : لكان هذا القرآن ، وروي عنه أنه قال : إن الجواب لكفروا بالرحمن ، أي : لو فعل بهم هذا لكفروا بالرحمن ، وقيل : جوابه لما آمنوا كما سبق في قوله ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله [ الأنعام : 111 ] ، وقيل : الجواب متقدم ، وفي الكلام تقديم وتأخير ، أي : وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآنا . . . . إلى آخره ، وكثيرا ما تحذف العرب جواب " لو " إذا دل عليه سياق الكلام ، ومنه قول امرئ القيس :
فلو أنها نفس تموت جميعة ولكنها نفس تساقط أنفسا
أي لهان علي ذلك بل لله الأمر جميعا أي لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هذا القرآن ، ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن ، فلو شاء أن يؤمنوا لآمنوا وإذا لم يشأ أن يؤمنوا لم ينفع تسيير الجبال وسائر ما اقترحوه من الآيات ، فالإضراب متوجه إلى ما يؤدي إليه كون الأمر لله سبحانه ويستلزمه من توقف الأمر على ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، ويدل على أن هذا هو المعنى المراد ، من ذلك قوله : أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا قال الفراء : قال الكلبي أفلم ييأس بمعنى أفلم يعلم ، وهي لغة النخع .قال في الصحاح : وقيل : هي لغة هوازن ، وبهذا قال جماعة من السلف ، قال أبو عبيدة : أفلم يعلموا ويتبينوا .
قال : وهو مجاز لأن اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون ، نظيره استعمال الرجاء في معنى الخوف ، والنسيان في الترك لتضمنهما إياهما ، ويؤيده قراءة علي الزجاج وجماعة : أفلم يتبين ، ومن هذا قول وابن عباس رباح بن عدي :
ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا
أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم
قال الشاعر :
أفنى تلادي وما جمعت من نشب قرع القراقير أفواه الأباريق
والمعنى : أو تحل أنت يا محمد قريبا من دارهم محاصرا لهم آخذا بمخانقهم كما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم لأهل الطائف حتى يأتي وعد الله وهو موتهم ، أو قيام الساعة عليهم ، فإنه إذا جاء وعد الله المحتوم حل بهم من عذابه ما هو الغاية في الشدة ، وقيل : المراد بوعد الله هنا الإذن منه بقتال الكفار ، والأول أولى إن الله لا يخلف الميعاد فما جرى به وعده فهو كائن لا محالة .
ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا التنكير في رسل للتكثير ، أي : برسل كثيرة ، والإملاء : الإمهال ، وقد مر تحقيقه في الأعراف ثم أخذتهم بالعذاب الذي أنزلته بهم فكيف كان عقاب الاستفهام للتقريع والتهديد ، أي : فكيف كان عقابي لهؤلاء الكفار الذين استهزءوا بالرسل ، فأمليت لهم ثم أخذتهم .
ثم استفهم سبحانه استفهاما آخر للتوبيخ والتقريع يجري مجرى الحجاج للكفار واستركاك صنعهم والإزراء عليهم ، فقال أفمن هو قائم على كل نفس القائم الحفيظ والمتولي للأمور .
وأراد سبحانه نفسه ، فإنه المتولي لأمور خلقه المدبر لأحوالهم بالآجال والأرزاق وإحصاء الأعمال على كل نفس من الأنفس كائنة ما كانت ، والجواب محذوف ، أي : أفمن هو بهذه الصفة كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تنفع ولا تضر .
قال الفراء : كأنه في المعنى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كشركائهم الذين اتخذوهم من دون الله ، والمراد من الآية إنكار المماثلة بينهما ، وقيل : المراد بـ أفمن هو قائم على كل نفس [ ص: 733 ] الملائكة الموكلون ببني آدم ، والأول أولى ، وجملة وجعلوا لله شركاء معطوفة على الجواب المقدر مبينة له أو حالية بتقدير " قد " ، أي : وقد جعلوا ، أو معطوفة على " ولقد استهزئ " أي استهزءوا وجعلوا ، قل سموهم أي قل يا محمد جعلتم له شركاء فسموهم من هم ؟ وفي هذا تبكيت لهم وتوبيخ ، لأنه إنما يقال هكذا في الشيء المستحقر الذي لا يستحق أن يلتفت إليه ، فيقال : سمه إن شئت : يعني أنه أحقر من أن يسمى ، وقيل : إن المعنى سموهم بالآلهة كما تزعمون ، فيكون ذلك تهديدا لهم أم تنبئونه أي بل أتنبئون الله بما لا يعلم في الأرض من الشركاء الذين تعبدونهم مع كونه العالم بما في السماوات والأرض أم بظاهر من القول أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن تكون له حقيقة ، وقيل : المعنى : قل لهم أتنبئون الله بباطن لا يعلمه أم بظاهر يعلمه ؟ فإن قالوا بباطن لا يعلمه فقد جاءوا بدعوى باطلة ، وإن قالوا بظاهر يعلمه فقل لهم سموهم .
فإذا سموا اللات والعزى ونحوهما ، فقل لهم إن الله لا يعلم لنفسه شريكا ، وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها ، وإن لم يكن له شريك في غير الأرض ، لأنهم ادعوا له شريكا في الأرض ، وقيل : معنى أم بظاهر من القول أم بزائل من القول باطل ، ومنه قول الشاعر :
أعيرتنا ألبانها ولحومها وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر
وقرأ : " زين " على البناء للفاعل على أن الذي زين لهم ذلك هو مكرهم . ابن عباس
وقرأ من عداه بالبناء للمفعول ، والمزين هو الله سبحانه ، أو الشيطان ويجوز أن يسمى المكر كفرا ، لأن مكرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان كفرا ، وأما معناه الحقيقي فهو الكيد ، أو التمويه بالأباطيل وصدوا عن السبيل قرأ حمزة والكسائي وعاصم صدوا على البناء للمفعول ، أي : صدهم الله ، أو صدهم الشيطان .
وقرأ الباقون على البناء للفاعل ، أي : صدوا غيرهم ، واختار هذه القراءة أبو حاتم وقرأ بكسر الصاد ومن يضلل الله فما له من هاد أي يجعله ضالا وتقتضي مشيئته إضلاله ، فما له من هاد يهديه إلى الخير . يحيى بن وثاب
قرأ الجمهور هاد من دون إثبات الياء على اللغة الكثيرة الفصيحة .
وقرئ بإثباتها على اللغة القليلة .
ثم بين سبحانه ما يستحقونه ، فقال لهم عذاب في الحياة الدنيا بما يصابون به من القتل والأسر وغير ذلك ولعذاب الآخرة أشق عليهم من عذاب الحياة الدنيا وما لهم من الله من واق يقيهم عذابه ، ولا عاصم يعصمهم منه .
ثم لما ذكر سبحانه ما يستحقه الكفار من العذاب في الأولى والأخرى ، ذكر ما أعده للمؤمنين ، فقال مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أي صفقتها العجيبة الشأن التي هي في الغرابة كالمثل ، قال ابن قتيبة : المثل الشبه في أصل اللغة ، ثم قد يصير بمعنى صورة الشيء وصفته ، يقال مثلت لك كذا ، أي : صورته ووصفته ، فأراد هنا بمثل الجنة صورتها وصفتها ، ثم ذكرها ، فقال : تجري من تحتها الأنهار وهو كالتفسير للمثل .
قال سيبويه : وتقديره فيما قصصنا عليك مثل الجنة .
وقال الخليل وغيره : إن ( مثل الجنة ) مبتدأ والخبر " تجري " .
وقال : إنه تمثيل للغائب بالشاهد ، ومعناه : مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار ، وقيل : إن فائدة الخبر ترجع إلى الزجاج أكلها دائم أي لا ينقطع ، ومثله قوله سبحانه لا مقطوعة ولا ممنوعة [ الواقعة : 33 ] ، وقال الفراء : المثل مقحم للتأكيد ، والمعنى : الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار ، والعرب تفعل ذلك كثيرا و ظلها أي كذلك دائم لا يتقلص ولا تنسخه الشمس ، والإشارة بقوله تلك إلى الجنة الموصوفة بالصفات المتقدمة ، وهو مبتدأ خبره عقبى الذين اتقوا أي عاقبة الذين اتقوا المعاصي ، ومنتهى أمرهم وعقبى الكافرين النار ليس لهم عاقبة ولا منتهى إلا ذلك .
وقد أخرج الطبراني وأبو الشيخ عن قال : ابن عباس جبال مكة التي قد ضمتنا ، فنزلت ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية . قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن كان كما تقول فأرنا أشياخنا الأول من الموتى نكلمهم ، وافسح لنا هذه الجبال
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن قال : عطية العوفي لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان يحيي عيسى الموتى لقومه ، فأنزل الله ولو أن قرآنا سيرت به الجبال الآية إلى قوله : قالوا أفلم ييأس الذين آمنوا قال : أفلم يتبين الذين آمنوا ، قالوا : هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ قال : عن عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم . أبي سعيد الخدري
وأخرجه أيضا قال : حدثنا ابن أبي حاتم أبو زرعة حدثنا منجاب بن الحارث ، أخبرنا بشر بن عمارة ، حدثنا عمر بن حسان عن فذكره . عطية العوفي
وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عن العوفي نحوه مختصرا . ابن عباس
وأخرج أبو يعلى وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه عن في ذكر سبب نزول الآية نحو ما تقدم مطولا . الزبير بن العوام
وأخرج ابن إسحاق عن وابن أبي حاتم في قوله : ابن عباس بل لله الأمر جميعا لا يصنع من ذلك إلا ما يشاء ولم يكن ليفعل .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن وابن أبي حاتم أفلم ييأس يقول يعلم . ابن عباس
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ من طريق أخرى عنه نحوه .
وأخرج أبو الشيخ عن ابن زيد نحوه .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن أبي العالية أفلم ييأس قال : قد يئس الذين آمنوا أن يهدوا ولو شاء الله لهدى الناس جميعا .
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن مردويه عن في قوله : ابن عباس تصيبهم بما صنعوا قارعة قال : السرايا .
وأخرج [ ص: 734 ] الطيالسي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه نحوه ، وزاد أو تحل قريبا من دارهم قال : أنت يا محمد حتى يأتي وعد الله ، قال : فتح مكة .
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد نحوه .
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن وابن أبي حاتم قارعة قال : نكبة . ابن عباس
وأخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عنه قارعة قال : عذاب من السماء ، أو تحل قريبا من دارهم : يعني نزول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهم وقتاله آباءهم . العوفي
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عنه أيضا في قوله : أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت قال : يعني بذلك نفسه .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء في الآية قال : الله تعالى قائم بالقسط والعدل على كل نفس .
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله : أم بظاهر من القول قال : الظاهر من القول هو الباطل .
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عكرمة في قوله : مثل الجنة قال : . نعت الجنة ، ليس للجنة مثل
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن في قوله : إبراهيم التيمي أكلها دائم قال : لذاتها دائمة في أفواههم .