[ ص: 557 ] الاستثناء بقوله : إلا الذين عاهدتم قال : إنه يعود إلى قوله : براءة والتقدير : براءة من الله ورسوله إلى المعاهدين من المشركين إلا الذين لم ينقضوا العهد منهم . الزجاج
وقال في الكشاف : إنه مستثنى من قوله : فسيحوا والتقدير : فقولوا لهم فسيحوا ، إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقصوكم فأتموا إليهم عهدهم .
قال : والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل : بعد أن أمروا في الناكثين ، ولكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراه .
وقد اعترض عليه بأنه قد تخلل الفاصل بين المستثنى والمستثنى منه وهو وأذان من الله إلخ . . . وأجيب بأن ذلك لا يضر لأنه ليس بأجنبي ، وقيل : إن الاستثناء من المشركين المذكورين قبله فيكون متصلا وهو ضعيف .
قوله : " ثم لم ينقصوكم شيئا " أي لم يقع منهم أي نقص وإن كان يسيرا ، وقرأ عكرمة " ينقضوكم " بالضاد المعجمة : أي لم ينقضوا عهدكم ، وفيه دليل على أنه كان من أهل العهد من خاس بعهده ، ومنهم من ثبت عليه ، فأذن الله - سبحانه - لنبيه - صلى الله عليه وسلم - بنقض عهد من نقض ، وبالوفاء لمن لم ينقض إلى مدته وعطاء بن يسار ولم يظاهروا عليكم أحدا المظاهرة : المعاونة : أي لم يعاونوا عليكم أحدا من أعدائكم فأتموا إليهم عهدهم أي أدوا إليهم عهدهم تاما غير ناقص إلى مدتهم التي عاهدتموهم إليها وإن كانت أكثر من أربعة أشهر ، ولا تعاملوهم معاملة الناكثين من القتال بعد مضي المدة المذكورة سابقا ، وهي أربعة أشهر أو خمسون يوما على الخلاف السابق .
قوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . انسلاخ الشهر : تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه ، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه ، وأصله الانسلاخ الواقع بين الحيوان وجلده ، فاستعير لانقضاء الأشهر ، يقال : سلخت الشهر تسلخه سلخا وسلوخا بمعنى خرجت منه ، ومنه قول الشاعر :
إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله كفى قاتلا سلخي الشهور وإهلالي
ويقال : سلخت المرأة درعها : نزعته ، وفي التنزيل وآية لهم الليل نسلخ منه النهار ( يس : 37 ) .
واختلف العلماء في تعيين المذكورة هاهنا ، فقيل : هي الأشهر الحرم المعروفة التي هي ذو القعدة وذو الحجة ، ومحرم ، ورجب : ثلاثة سرد ، وواحد فرد . الأشهر الحرم
ومعنى الآية على هذا وجوب . الإمساك عن قتال من لا عهد له من المشركين في هذه الأشهر الحرم
وقد وقع النداء والنبذ إلى المشركين بعهدهم يوم النحر ، فكان الباقي من الأشهر الحرم التي هي الثلاثة المسرودة خمسين يوما تنقضي بانقضاء شهر المحرم فأمرهم الله بقتل المشركين حيث يوجدون ، وبه قال جماعة من أهل العلم منهم الضحاك ، ، وروي عن والباقر ، واختاره ابن عباس . ابن جرير
وقيل : المراد بها شهور العهد المشار إليها بقوله : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وسميت حرما لأن الله - سبحانه - حرم على المسلمين فيها دماء المشركين والتعرض لهم ، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم منهم مجاهد وابن إسحاق ، وابن زيد ، وقيل : هي الأشهر المذكورة في قوله : وعمرو بن شعيب فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .
وقد روي ذلك عن ، وجماعة ، ورجحه ابن عباس ابن كثير ، وحكاه عن مجاهد وعمرو بن شعيب ومحمد بن إسحاق وقتادة ، والسدي ، ، وسيأتي بيان حكم القتال في الأشهر الحرم الدائرة في كل سنة في هذه السورة إن شاء الله . وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم
ومعنى حيث وجدتموهم في أي مكان وجدتموهم من حل أو حرم .
ومعنى خذوهم الأسر ، فإن الأخيذ هو الأسير .
ومعنى الحصر منعهم من التصرف في بلاد المسلمين إلا بإذن منهم ، والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، يقال : رصدت فلانا أرصده : أي رقبته ، أي اقعدوا لهم في المواضع التي ترتقبونهم فيها ، قال عامر بن الطفيل :
ولقد علمت وما إخالك عالما أن المنية للفتى بالمرصد
وقال النابغة :
أعاذل إن الجهل من لذة الفتى وإن المنايا للنفوس بمرصد
و " كل " في كل مرصد ينتصب على الظرفية وهو اختيار ، وقيل : هو منتصب بنزع الخافض : أي في كل مرصد ، وخطأ الزجاج أبو علي الفارسي في جعله ظرفا . الزجاج
وهذه الآية المتضمنة للأمر بقتل المشركين عند انسلاخ الأشهر الحرم عامة لكل مشرك لا يخرج عنها إلا من خصته السنة ، وهو المرأة والصبي والعاجز الذي لا يقاتل وكذلك يخصص منها أهل الكتاب الذين يعطون الجزية على فرض تناول لفظ المشركين لهم ، وهذه الآية نسخت كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذاهم .
وقال الضحاك ، وعطاء والسدي ، : هي منسوخة بقوله : فإما منا بعد وإما فداء ( محمد : 4 ) وأن الأسير لا يقتل صبرا بل يمن عليه أو يفادى .
وقال مجاهد وقتادة : بل هي ناسخة لقوله : فإما منا بعد وإما فداء ( محمد : 4 ) وأنه لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل .
وقال ابن زيد : الآيتان محكمتان .
قال القرطبي : وهي الصحيح لأن المن والقتل والفداء لم تزل من حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم من أول حرب جاء بهم وهو يوم بدر .
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة أي تابوا عن الشرك الذي هو سبب القتل ، وحققوا التوبة بفعل ما هو من أعظم أركان الإسلام ، وهو إقامة الصلاة ، وهذا الركن اكتفى به عن ذكر ما يتعلق بالأبدان من العبادات لكونه رأسها ، واكتفى بالركن الآخر المالي ، وهو إيتاء الزكاة عن كل ما يتعلق بالأموال من العبادات لأنه أعظمها قوله : فخلوا سبيلهم أي اتركوهم وشأنهم فلا تأسروهم ولا تحصروهم ولا تقتلوهم إن الله غفور لهم رحيم بهم .
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره ، يقال : استجرت فلانا : أي طلبت أن يكون جارا أي : محاميا [ ص: 558 ] ومحافظا من أن يظلمني ظالم ، أو يتعرض لي متعرض ، وأحد مرتفع بفعل مقدر يفسره المذكور بعده : أي وإن استجارك أحد استجارك ، وكرهوا الجمع بين المفسر والمفسر ، والمعنى : وإن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم فأجره : أي كن جارا له مؤمنا محاميا قوله : حتى يسمع كلام الله منك ويتدبره حق تدبره ، ويقف على حقيقة ما تدعو إليه ثم أبلغه مأمنه أي إلى الدار التي يأمن فيها بعد أن يسمع كلام الله إن لم يسلم ، ثم بعد أن تبلغه مأمنه قاتله فقد خرج من جوارك ورجع إلى ما كان عليه من إباحة دمه ، ووجوب قتله حيث يوجد ، والإشارة بقوله : ذلك إلى ما تقدم من الأمر بالإجارة وما بعده بأنهم قوم لا يعلمون أي بسبب فقدانهم للعلم النافع المميز بين الخير والشر في الحال والمآل .
وقد أخرج ، عن ابن أبي حاتم ، في قوله : ابن عباس إلا الذين عاهدتم قال : هم قريش .
وأخرج أيضا عن قتادة ، قال : هم مشركو قريش الذين عاهدهم نبي الله زمن الحديبية ، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر ، فأمر نبيه أن يوفي بعهدهم هذا إلى مدتهم .
وأخرج ابن المنذر ، ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ ، عن في قوله : محمد بن عباد بن جعفر إلا الذين عاهدتم قال : هم بنو جذيمة بن عامر من بني بكر بن كنانة .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم مجاهد في قوله : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم قال : كان بقي لبني مذحج وخزاعة عهد ، فهو الذي قال الله : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم .
وأخرج أبو الشيخ ، عن ، في قوله : السدي إلا الذين عاهدتم من المشركين قال : هؤلاء بنو ضمرة وبنو مدلج من بني كنانة كانوا حلفاء للنبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة العشيرة من بطن ينبع ثم لم ينقصوكم شيئا ثم لم ينقصوا عهدكم بغدر ولم يظاهروا عليكم أحدا قال : لم يظاهروا عدوكم عليكم فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم يقول : أجلهم الذي شرطتم لهم إن الله يحب المتقين يقول : الذين يتقون الله فيما حرم عليهم فيوفون بالعهد .
قال : فلم يعاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد هؤلاء الآيات أحدا .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ، في قوله : السدي فإذا انسلخ الأشهر الحرم قال : هي الأربعة : عشرون من ذي الحجة والمحرم ، وصفر ، وشهر ربيع الأول ، وعشر من ربيع الآخر .
قلت : مراد ، أن هذه الأشهر تسمى حرما لكون تأمين المعاهدين فيها يستلزم تحريم القتال ، لا أنها الأشهر الحرم المعروفة . السدي
وأخرج ، عن الضحاك ، في الآية قال : هي عشر من ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ، سبعون ليلة . ابن أبي حاتم
وأخرج أبو الشيخ ، عن مجاهد قال : هي الأربعة الأشهر التي قال : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر .
وأخرج ابن المنذر ، عن قتادة ، نحو قول السابق . السدي
وأخرج أبو داود في ناسخه عن ، في قوله : ابن عباس فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ثم نسخ واستثنى فقال : فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ، وقال : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله .
وأخرج ابن المنذر ، ، عن وابن أبي حاتم مجاهد في قوله : وإن أحد من المشركين استجارك فأجره يقول : من جاءك واستمع ما تقول ، واستمع ما أنزل إليك ، فهو آمن حين يأتيك فيسمع كلام الله حتى يبلغ مأمنه من حيث جاء .
وأخرج ، عن ابن أبي حاتم ابن زيد في قوله : ثم أبلغه مأمنه قال : إن لم يوافقه ما يقص عليه ويخبر به فأبلغه مأمنه ، وهذا ليس بمنسوخ .
وأخرج أبو الشيخ ، عن قتادة ، في قوله : حتى يسمع كلام الله أي كتاب الله .
وأخرج أبو الشيخ ، عن قال : كان الرجل يجيء إذا سمع كتاب الله وأقر به وأسلم فذاك الذي دعي إليه ، وإن أنكر ولم يقر به ، رد مأمنه ، ثم نسخ ذلك ، فقال : سعيد بن أبي عروبة وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة .