( صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ( قال الأستاذ ) : الصراط المستقيم : هو الطريق الموصل إلى الحق ، ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الأنعام : ( فبهداهم اقتده ) وقد قلنا : إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الأخبار ، التي هي مثل الذكرى والاعتبار ، وينبوع العظة والاستبصار ، وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية .
( قال ) : فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين ، والمغضوب عليهم : باليهود ، والضالين بالنصارى ، ونحن نقول إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الإمام علي رضي الله عنه ، وهو أعلم بهذا من غيره ؛ لأنه تربى في حجر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأول من آمن به ، وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور ( كما مر في المقدمة ) [ ص: 56 ] ولم يكن المسلمون في أول نزول الوحي بحيث يطلب الاهتداء بهداهم ، وما هداهم إلا من الوحي ثم هم المأمورون بأن يسألوا الله أن يهديهم هذه السبيل ، سبيل من أنعم الله عليهم من قبلهم ، فأولئك غيرهم ، وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى : " ( فبهداهم اقتده " وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة . فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن بقدر الحاجة ، فثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص . وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم ، في كفرهم وإيمانهم ، وشقاوتهم وسعادتهم ، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع . فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد ، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة ، وأسباب علمهم وجهلهم ، وقوتهم وضعفهم ، وعزهم وذلهم ، وغير ذلك مما يعرض للأمم - كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض ، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار . ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات ، وتأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ويرغبون عنه ، ويقولون : إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له . وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين ؟ ( ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات ) ( 13 : 6 ) .
وهاهنا سؤال وهو : ، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم ، وأصلح لزماننا وما بعده ؟ والقرآن يبين لنا الجواب وهو أنه يصرح بأن دين الله في جميع الأمم واحد ، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف باختلاف الزمان ، وأما الأصول فلا خلاف فيها . قال تعالى : ( كيف يأمرنا الله تعالى باتباع صراط من تقدمنا وعندنا أحكام وإرشادات لم تكن عندهم قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ) ( 3 : 64 ) الآية ، وقال تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) ( 4 : 163 ) الآية . فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر ، وترك الشر وعمل البر ، والتخلق بالأخلاق الفاضلة مستو في الجميع . وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه : لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير . وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة . على حسب طريقة القرآن في قرن الدليل بالمدلول والعلة بالمعلول ، والجمع بين السبب والمسبب . وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإجمال ، نعرفه من شرعنا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام ا هـ بتفصيل وإيضاح . وأزيد هنا أن ، ويرى أنه مما يستدرك على ما قرره الأستاذ الإمام ، كبناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية ، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد المصالح والمنافع ودفع المضار والمفاسد ، وكبيان أن للكون سننا مطردة تجري عليه عوالمه العاقلة وغير العاقلة ، وكالحث [ ص: 57 ] على النظر في الأكوان ، للعلم والمعرفة بما فيها من الحكم والأسرار التي يرتقي بها العقل وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان ، وكل ذلك مما امتاز به القرآن . والجواب عن هذا أنه تكميل لأصول الدين الثلاثة التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإنسان . وأما تلك الأصول وهي : الإيمان الصحيح ، وعبادة الله تعالى وحده ، وحسن المعاملة مع الناس ، فهي التي لا خلاف فيها . في الإسلام من ضروب الهداية ما قد يعد من الأصول الخاصة بالإسلام
وأما وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به ، والذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه ، انصرافا عن الدليل ، ورضاء بما ورثوه من القيل ، ووقوفا عند التقليد ، وعكوفا على هوى غير رشيد ، وغضب الله يفسرونه بلازمه : وهو العقاب ، ووافقهم الأستاذ الإمام ، والذي ينطبق على مذهب السلف أن يقال : إنه شأن من شئونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه ، وإن الضالين هم الذين لم يعرفوا الحق ألبتة ، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل كما سيأتي تفصيله . وقرن المعطوف في قوله " ( ولا الضالين " بلا لما في " غير " من معنى النفي ، أي وغير الضالين ، ففيه تأكيد للنفي . وهو يدل على أن الطوائف ثلاث : المنعم عليهم ، والمغضوب عليهم ، والضالون . ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها ، فلا يصلون منها إلى المطلوب ، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب ، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم ، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق ، لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها ، وهم من لم تبلغهم الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق . فهؤلاء هم أحق باسم الضالين ، فإن الضال حقيقة : هو التائه الواقع في عماية لا يهتدي معها إلى المطلوب ، والعماية في الدين : هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ .
الأستاذ الإمام : الضالون على أقسام : -
القسم الأول من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر . فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل ، وحرموا رشد الدين ، فإن لم يضلوا في شئونهم الدنيوية ضلوا لا محالة فيما تطلب به نجاة الأرواح وسعادتها في الحياة الأخرى . على أن من شأن الدين الصحيح أن يفيض على أهله من روح الحياة ما به يسعدون في الدنيا والآخرة معا ، فمن حرم الدين حرم السعادتين ، وظهر أثر التخبط والاضطراب في أعماله المعاشية ، وحل به من الرزايا ما يتبع الضلال والخبط عادة ، سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا . أما أمرهم في الآخرة فعلى أنهم لن يساووا المهتدين في منازلهم ، وقد يعفو الله عنهم وهو الفعال لما يريد .
[ ص: 58 ] وأزيد في إيضاح كلام الأستاذ : أن الذين حرموا هداية الدين لا يعقل أن يؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يعرف إلا بهذه الهداية . وهذا هو معنى كونهم غير مكلفين ، وعليه جمهور المتكلمين لقوله تعالى في سورة الإسراء ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ( 17 : 15 ) ومن قال : إنهم مكلفون بالعقل لا يظهر وجه لقوله إلا إذا أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتقاء أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة ، إذ لا شك أن من لم يبعث فيهم رسول يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم بتفاوت استعدادهم الفطري وما يصادفون من حسن التربية وقبحها . وبهذا يجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو يفصل بينها . وما يعطيهم الله تعالى إياه في الآخرة على حسب حالهم في الخير والشر والفضيلة والرزيلة - يكون جزاء عادلا على أعمالهم الاختيارية ويزيدهم من فضله إن شاء وسأفصل هذا المعنى في تفسير الآيات المنزلة فيه إن شاء الله تعالى . وأعود الآن إلى إتمام سياق الأستاذ ، قال :
( القسم الثاني ) : من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر ، فساق همته إليه ، واستفرغ جهده فيه ، ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه ، وانقضى عمره وهو في الطلب ، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادا متفرقة في الأمم ، ولا يعم حاله شعبا من الشعوب ، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة ، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتها الدنيا أما صاحب هذه الحالة فقد ذهب بعض الأشاعرة إلى أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى ، وينقل صاحب هذا الرأي مثله عن وأما على رأي الجمهور فلا ريب أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد الذي أنكر التنزيل ، واستعصى على الدليل ، وكفر بنعمة العقل ، ورضي بحظه من الجهل . أبي الحسن الأشعري
( القسم الثالث ) : ، فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به من أصول العقائد ، وهؤلاء هم المبتدعة في كل دين ، ومنهم المبتدعون في دين الإسلام ، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن وما كان عليه السلف الصالح وأهل الصدر الأول ، ففرقوا الأمة إلى مشارب ، يغص بمائها الوارد ، ولا يرتوي منها الشارب ، ( قال ) : وإني أشير إلى طرف من آثارهم في الناس : يأتي الرجل إلى دوائر القضاء فيستحلف بالله العلي العظيم ، أو بالمصحف الكريم وهو كلام الله القديم ، - أنه ما فعل كذا ، فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه ، فيأتيه المستحلف من طريق آخر ويحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية ، فيتغير لونه ، وتضطرب أركانه ، ثم يرجع في أليته ويقول الحق ، ويقر بأنه فعل ما حلف أولا أنه لم يفعله ، تكريما لاسم ذلك الشيخ ، وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو يحل به نقمة إذا حلف [ ص: 59 ] باسمه كاذبا . فهذا ضلال في أصول العقيدة ، يرجع إلى الضلال في الإيمان بالله تعالى وما يجب له من الوحدانية في الأفعال ، ولو أردنا أن نسرد ما وقع فيه المسلمون من الضلال في العقائد الأصلية بسبب البدع التي عرضت على دين الإسلام لطال المقال ، واحتيج إلى وضع مجلدات في وجوه الضلال ، ومن أشنعها أثرا ، وأشدها ضررا ، خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر ، والاختيار والجبر ، وتحقيق الوعد والوعيد ، وتهوين مخالفة الله على نفوس العبيد . من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها ، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها
إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقادات بكتاب الله تعالى من غير أن ندخلها أولا فيه يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين . وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن وحشرناها فيه أولا فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال لاختلاط الموزون بالميزان . فلا يدرى ما هو الموزون من الموزون به - أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها ، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها ، كما جرى عليه المخذولون ، وتاه فيه الضالون .
( القسم الرابع ) : ضلال في الأعمال ، وتحريف للأحكام عما وضعت له ، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات ، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات ، ولنضرب لذلك مثلا : بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي قليل من الحول الثاني ، حتى لا تجب الزكاة فيه ، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ، ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية ، ولا يعلم أنه بذلك قد هدم ركنا من أهم أركان دينه ، وجاء بعمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره ، وهو محال عليه جل شأنه . الاحتيال في الزكاة
ثلاثة أقسام من هذا الضلال أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم فتختل قوى الإدراك فيها ، وتفسد الأخلاق ، وتضطرب الأعمال ، ويحل بها الشقاء ، عقوبة من الله لا بد من نزولها بهم ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا . ويعد حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم من العلامات والدلائل على غضب الله تعالى عليها لما أحدثته في عقائدها وأعمالها مما لا يخالف سننه ، ولا يتبع فيه سننه . لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم بالوقوف عند حدوده ، وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه ، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه بالانحراف عن شرائعه ، سواء كان ذلك عمدا وعنادا ، أو غواية وجهلا .
إذا ضلت الأمة سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها ، ففسدت أخلاقها واعتلت أعمالها ، [ ص: 60 ] وقعت في الشقاء لا محالة ، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب ، وإن كانت ستلاقي نصيبها منه أيضا ، فإذا تمادى بها الغي وصل بها إلى الهلاك ، ومحا أثرها من الوجود ، هكذا ، لنعتبر ونميز بين ما به تسعد الأقوام وما به تشقى . أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا ، فقد يستدرج الضال من حيث لا يعلم ، ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه ، وإنما يلقى جزاءه ( علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا ، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ) ( 82 : 19 ) ا هـ .