[ ص: 280 ] ( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هـذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) جاءت هذه القصة في سياق الكلام على أهل الكتاب وشأنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم ، والقرآن بين قصة بني إسرائيل الذين عصوا ربهم فيما كلفهم من قتال الجبارين ، وبين ما شرعه الله من جزاء الذين يخرجون على أئمة العدل ويهددون الأمن ويفسدون في الأرض ، وما يتلوه من عقاب السرقة .
فمناسبة هذه الآيات للسياق في جملته أنها بيان لكون الحسد الذي صرف اليهود عن الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم وحملهم على عداوته عريقا في الآدميين وأثرا من آثار [ ص: 281 ] سلفهم ، كان لهؤلاء القوم منه النصيب الأوفر ، ويتضمن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وإزالة استغرابهم إعراض هذا الشعب عن الإسلام على وضوح برهانه وكثرة آياته . وأما مناسبتها لما قبلها وما بعدها مباشرة ; فهو بيان حكمة الله في شرع القتال والقود على ما شدد فيه من تحريم قتل النفس ، ذلك أنه لما كان القتال بين الأمم وقتل الحكومات للأفراد ، أو تعذيبهم بقطع الأطراف ، كل ذلك قبيحا في نفسه ، كان من مقتضى رحمة الله تعالى وحكمته ، أنه لا يباح إلا لدرء ما هو أقبح منه وأضر ، وكان من كمال الدين أن يبين لنا حكمة ذلك ، فجاءت هذه القصة في هذا المقام ، تبين لنا أن اعتداء بعض البشر على بعض - حتى بالقتل - هو أصيل فيهم ، وقع بين أبناء أبيهم آدم في أول العهد بتعددهم ; لأنه أثر من آثار ما جبلوا عليه من كون أعمالهم باختيارهم ، حسب إرادتهم التابعة لعلمهم أو ظنهم ، وكون علومهم وظنونهم من كسبهم ، وكونها لا تبلغ درجة الإحاطة بمصالحهم ومنافعهم ، وكذا ما جبلوا عليه من حب الكمال ، وما يتبعه من حسد الناقص لمن يفوقه في الفضائل والأعمال ، وكون الحاسد يبغي إن قدر ، ما لم يزعه الدين أو يمنعه القدر ، وهو لا يبغي ولا يقتل إلا وهو يظن أن ذلك خير له وأنفع ، وأنوه بقدره وأرفع ، ومثل هذا الظن لا يزول من الناس إلا إذا أحاط كل فرد من أفرادهم علما بكل شئون المعاش والمعاد ، وارتباط المنافع الشخصية بمنافع الاجتماع ، وأقاموا الدين القيم كلهم على الوجه الذي أراده الله ، وكل ذلك محال لأن طبيعة البشر تأباه ، فهم يخلقون متفاوتين في الاستعداد للعلم ، وما يرد على أنفسهم من صور المعلومات بأنواعها يختلف ، وما يتحد منه يختلف تأثيره الذي يترتب عليه العمل ; فالاختلاف في العلم والرأي والشعور والوجدان طبيعي فيهم ، ومن لوازمه النافعة اشتغال كل فريق منهم بنوع من أنواع الأعمال ، وبذلك يظهرون أسرار الله وحكمه في الكائنات ، وينتفعون بما سخره لهم من أنواع المخلوقات ، ومن لوازمه الضارة التخاصم والتقاتل . لأجل هذا صاروا محتاجين إلى الحكام والشرائع . وكان من عدل الشريعة أن تبني أحكام قتل الأفراد وقتال الشعوب على قواعد درء المفاسد وإقامة المصالح ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) ( 2 : 251 ) فهذه الآيات في هذا الموضع مبينة لحكم ما قبلها وما بعدها من الأخبار والأحكام ، وقال وتبعه بعض المفسرين : إن هذه الآيات متعلقة بقوله تعالى : ( ابن جرير ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم ) ( 5 : 11 ) الآية . وقال بعضهم إنها متعلقة بقوله تعالى : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله ) ( 5 : 18 ) الآية ، وما قلناه أكمل وأعم وأشمل ، قال تعالى :
( واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق ) الأصل لمعنى مادة ( ت ل و ) التبع ; فالتلو - بالكسر - ولد الناقة والشاة إذا فطم وصار يتبعها ، وكل ما يتبع غيره في شيء يقال : هو تلوه . ويقال [ ص: 282 ] ما زلت أتلوه حتى أتليته : أي غلبته فسبقته وجعلته تلوي ، وتلا فلان : اشترى تلوا ; أي بغلا صغيرا أو جحشا ، والتلاوة - بالضم - والتلية - بالفتح - بقية الشيء ; لأنه يتلو ما قبله ، يقال ذهبت تلية الشباب ، والتلاوة - بالكسر - القراءة ، ولم تكد تستعمل إلا في قراءة كلام الله تعالى . وذكر في لسان العرب تلاوة القرآن ، وقال إن بعضهم عم به كل كلام . ولعل قراءة القرآن سميت تلاوة لأنه مثاني ، كلما قرئ منه شيء يتبع بقراءة غيره أو بإعادته ، أو لأن شأنه أن يقرأ ليتبع بالاهتداء والعمل به ، وعبر القرآن بالتلاوة عن قراءة كتاب الله وآياته للأنبياء السابقين لهذا المعنى أيضا ، وفسروا قوله تعالى : ( يتلونه حق تلاوته ) ( 2 : 121 ) يتبعونه حق اتباعه . والنبأ : الخبر الصحيح الذي له شأن من الفائدة والجدارة بالاهتمام .
ومعنى الجملة : واتل أيها الرسول على أهل الكتاب وسائر الناس ، ذلك النبأ العظيم ، نبأ ابني آدم ، تلاوة متلبسة بالحق مظهرة له ، بأن تذكره كما وقع ، مبينا ما فيه من الحكمة والكشف عن غريزة البشر ، وهو ما جبلوا عليه من التباين والاختلاف الذي يفضي إلى التحاسد والبغي والقتل ; ليعلموا حكمة الله فيما شرعه في الدنيا من عقاب الباغين من الأفراد والجماعات ، والشعوب والقبائل ، وكون هذا البغي من اليهود على رسول الله والمؤمنين ليس من أمر دينهم وإنما هو من حسدهم وبغيهم ، فهم في هذا كابني آدم ; إذ حسد شرهما خيرهما ، فبغى عليه فقتله ، وكانت عاقبة ذلك ما بينته هذه الآيات .
والجمهور على أن هذين الابنين هما ابنا آدم من صلبه ، وعن الحسن ، أنهما من بني إسرائيل ، وفي سفر التكوين أنهما أول أولاد آدم ، اسم أحدهما قاين أو قايين ، وهو البكر ، ويقول علماء التفسير والتاريخ منا : قابيل - وهو القاتل - واسم الثاني هابيل بالاتفاق . وقد ذكروا في ذلك روايات غريبة ، لا يمكن أن يعرف مثلها إلا بوحي من الله ، وهي لم ترو عن أحد من رسل الله ; ومنها أن آدم رثى هابيل بشعر عربي ، فنعرض عن هذه الروايات التي لا تصح ولا تفيد ، ووصف ما قصه الله تعالى بالحق يشعر بأن ما يلوكه الناس في ذلك مما سواه باطل .
( إذ قربا قربانا ) أي اتل عليهم نبأهما ؛ أي وقت تقريبهما القربان ، وما تبعه من البغي والعدوان . والقربان : ما يتقرب به إلى الله تعالى من الذبائح وغيرها ، وغلب عندنا في ذبائح النسك ; كالأضاحي ، وكانت أنواعا ( منها ) : المحرقات للتكفير عن الخطايا ، وهي ذكور البقر والغنم السالمة من العيوب . والذبائح عن الخطايا : عن الخطايا العامة والخطايا الخاصة ( ومنها ) : ذبائح السلامة لشكر الرب تعالى ( ومنها ) : التقدمات من الدقيق والزيت واللبان ( ومنها ) تقدمة الترديد من باكورة الأرض . وأما القرابين عند اليهود النصارى فهو ما يقدمه الكاهن من الخبز والخمر ، فيتحول في اعتقادهم [ ص: 283 ] إلى لحم القربان عند المسيح ودمه حقيقة لا مجازا . والقربان في الأصل مصدر قرب منه وإليه قربا وقربانا ; فلهذا يستوي فيه المفرد وغيره ، والأقرب أن كل واحد منهما قرب قربانا ، ويجوز أن يكونا قد قربا قربانا واحدا ، كانا شريكين فيه ( فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ) أي فتقبل الله من أحدهما قربانه أو تقريبه القربان ; لتقواه وإخلاصه فيه وطيب نفسه به ، ولم يتقبل من الآخر لعدم التقوى والإخلاص ، والتقبل أخص من القبول ; لأنه ترق فيه إلى العناية بالمقبول والإثابة عليه . ولم يبين لنا الله تعالى كيف علما أنه تقبل من أحدهما دون الآخر . ويحتمل أن يكون ذلك بوحي من الله لأبيهما آدم عليه السلام بناء على قول الجمهور أنهما ابنا آدم لصلبه وفاقا لسفر التكوين ، أو لنبي زمانهما ، على قول الحسن أنهما كانا من بني إسرائيل ، وهو قول ضعيف خلاف الظاهر المتبادر ، وروي عن ابن عباس وغيرهما أن أحدهما كان صاحب حرث وزرع ، والآخر صاحب غنم ، وأن هذا قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة به نفسه ، وصاحب الزرع قرب شر ما عنده وأردأه غير طيبة به نفسه ، وروي عن بعضهم أن القربان المقبول كانت تجيء النار فتأكله ولا تأكل غير المقبول ، وهذه أخبار إسرائيلية اختلفت الروايات فيها عن مفسري السلف ، بعضها يوافق ما عند وابن عمر اليهود في سفر التكوين وبعضها يخالفه . وليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم يعول عليه .
( قال لأقتلنك ) أي إن من لم يتقبل منه توعد أخاه وأقسم ليقتلنه ، فأجابه أحسن جواب وأنفعه : ( قال إنما يتقبل الله من المتقين ) أي لا يقبل الله الصدقات وغيرها من الأعمال القبول المقرون بالرضا والإثابة ، إلا من المتصفين بالتقوى ، فهذا الجواب يتضمن بيان سبب القبول وعدمه مع الاعتذار ، كأنه قال : إنني لم أذنب إليك ذنبا تقتلني به ، فإن كان الله تعالى لم يتقبل منك ، فارجع إلى نفسك ، فحاسبها على السبب ، فإنما يتقبل الله من المتقين ; أي الذين يتقون الشرك الأكبر والأصغر ، وهو الرياء والشح واتباع الأهواء ، فاحمل نفسك على تقوى الله ، والإخلاص له في العمل ، ثم تقرب إليه بالطيبات يتقبل منك ، فالله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ) ( 3 : 92 ) فليتعظ بهذا أهل الغرور بأعمالهم ، ولا سيما النفقات التي يراءون بها الناس ، ويبغون بها الصيت والثناء .