( ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ) أي ولا يكسبنكم ويحملنكم بغض قوم [ ص: 227 ] وعداوتهم لكم ، أو بغضكم وعداوتكم لهم ، على عدم العدل في أمرهم بالشهادة لهم بحقهم إذا كانوا أصحاب الحق ، ومثلها هنا الحكم لهم به ، فلا عذر لمؤمن في ترك العدل وعدم إيثاره على الجور والمحاباة ، بل عليه جعله فوق الأهواء وحظوظ النفس ، وفوق المحبة والعداوة مهما كان سببهما ، فلا يتوهمن متوهم أنه يجوز ترك العدل في الشهادة للكافر ، أو الحكم له بحقه على المؤمن .
ولم يكتف بالتحذير من عدم العدل مهما كان سببه والنية فيه ، بل أكد أمره بقوله ( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) أي قد فرضت عليكم العدل فرضا لا هوادة فيه ، اعدلوا هو - أي العدل المفهوم من " اعدلوا " - أقرب لتقوى الله ; أي لاتقاء عقابه وسخطه باتقاء معصيته ، وهي الجور الذي هو من أكبر المعاصي ; لما يتولد منه من المفاسد ( واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) . الخبرة : العلم الدقيق الذي يؤيده الاختبار ; أي لا يخفى عليه تعالى شيء من أعمالكم ظاهرها وباطنها ، ولا من نياتكم وحيلكم فيها ، وهو الحكم العدل القائم بالقسط فاحذروا أن يخزيكم بالعدل على ترككم العدل ، فقد مضت سنته العادلة في خلقه بأن جزاء ترك العدل وعدم إقامة القسط في الدنيا هو ذل الأمة وهوانها ، واعتداء غيرها من الأمم على استقلالها ، ولجزاء الآخرة أذل وأخزى ، وأشد وأبقى ، قال نبينا صلى الله عليه وسلم : " " رواه إذا ظلم أهل الذمة كانت الدولة دولة العدو عن الطبراني جابر .
وقد تقدم في سورة النساء : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) ( 4 : 135 ) ( فراجع تفسيرها في ص 270 - 373 من جزء التفسير الخامس ط الهيئة ) وما أطلنا به هناك يغنينا عن الإطالة هنا ، على أن ما هنا أبلغ ، وإن كان أخصر ; لأن حذف متعلق " قوامين " يدخل فيه القسط وغيره ، وتأكيد الأمر بالعدل مع الأعداء والشهادة لهم به يفيد وجوبه مع غيرهم بالأولى .