قال الأستاذ الإمام : بعد أن علم الله المؤمنين طريقة الشفاعة الحسنة والسيئة وهي من أسباب التواصل بين الناس ، علمهم سنة التحية بينهم وبين إخوانهم الضعفاء والأقوياء في الإيمان ، وحسن الأدب بينهم وبين من يلقونه في أسفارهم فقال : وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ، وهذا ما يراه الأستاذ في وجه الاتصال والمناسبة بين الآية والتي قبلها وذكر الرازي في النظم وجهين :
الأول : أنه لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن يرضوا بالمسالمة إذا رضي الأعداء بها ، فهذه الآية عنده كقوله تعالى : وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ( 8 : 61 ) .
والثاني : أن الرجل كان يلقى الرجل في دار الحرب أو ما يقاربها فيسلم عليه فقد لا يلتفت إلى سلامه ويقتله ، فمنع الله المؤمنين من ذلك وأمرهم بأن يقابلوا كل من يسلم عليهم أو يكرمهم بنوع من الإكرام بمثل ما قابلهم به أو بأحسن منه .
هذا ملخص قوله : وفي الأول أنه جعل التحية بمعنى السلام والسلم ، وفي الثاني من التوسع في التحية ما فيه ، وسيأتي في هذه السورة ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ( 4 : 94 ) ، وقد ذكر هنا أدب التحية كما ذكر ما ينبغي وما لا ينبغي في الشفاعة ; لأن لكل من التحية والشفاعة شأنا عظيما في حال القتال ، يكون به نفعهما أو ضررهما أقوى منه في سائر الأحوال ، ويدل على ذلك في التحية اشتقاقها من الحياة .
، هذا هو الأصل ، ثم صارت التحية اسما لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل هو عليه من نحو دعاء أو ثناء كقولهم : أنعم صباحا وأنعم مساء ، وقالوا : عم صباحا ومساء ، التحية : مصدر حياه إذا قال له حياك الله ، وأنهم أهل السلم ومحبو السلامة ، ومن التحيات الشائعة في بلادنا إلى هذا اليوم : أسعد الله صباحكم ، أسعد الله مساءكم - وهذا بمعنى قول العرب القدماء : أنعم صباحا ومساء - ونهارك سعيد ، وليلتك سعيدة ، وهذا مترجم عن الإفرنجية . وجعلت تحية المسلمين السلام للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان
وقد أوجب الله - تعالى - علينا في هذه الآية أن نجيب من حيانا بأحسن من تحيته أو بمثلها أو عينها ، كأن نقول له الكلمة التي يقولها ، وهذا هو ردها ، وفسروه بأن تقول لمن قال : السلام عليكم ، بقولك : وعليكم السلام ، والأحسن أن تقول : وعليكم السلام ورحمة الله ، فإذا قال هذا في تحية فالأحسن أن تقول : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وهكذا يزيد المجيب على المبتدئ كلمة أو أكثر ، وأقول : قد يكون أحسن الجواب بمعناه أو كيفية [ ص: 254 ] أدائه ، وإن كان بمثل لفظ المبتدئ بالتحية ، أو مساويه في الألفاظ ، أو ما هو أخصر منه ، فمن قال لك : أسعد الله صباحكم ومساءكم ، فقلت له : أسعد الله جميع أوقاتكم كانت تحيتك أحسن من تحيته ، ومن قال لك : السلام عليكم بصوت خافت يشعر بقلة العناية فقلت له : وعليكم السلام بصوت أرفع وإقبال يشعر بالعناية وزيادة الإقبال والتكريم ، كنت قد حييته بتحية أحسن من تحيته في صفتها ، وإن كانت مثلها في لفظها ، والناس يفرقون في القيام للزائرين بين من يقوم بحركة خفيفة وهمة تشعر بزيادة العناية ومن يقوم متثاقلا ، ومن أهل دمشق من يشترطون في العناية بالقيام إظهار الاندهاش فيقولون : قام له باندهاش ، أو قام بغير اندهاش .
علم من الآية الجواب عن التحية له مرتبتان : أدناهما ردها بعناية ، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها ، فالمجيب مخير وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء ، ورد عين التحية لمن دونهم ، وروي عن قتادة وابن زيد أن ، وقيل للكفار عامة ، ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنة . جواب التحية لأحسن منها للمسلمين وردها بعينها لأهل الكتاب
وقد روى عن ابن جرير - رضي الله عنه - أنه قال : من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا ، فإن الله يقول : ابن عباس فإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها ، أقول : وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين ، ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمنه على نفسه ، وكانت العرب تقصد هذا المعنى ، والوفاء من أخلاقهم الراسخة ; ولذلك عد الأستاذ الإمام ذكر التحية مناسبا للسياق بكونها من وسائل السلام ، ولما صار لفظ السلام تحية المسلمين صارت التحية به عنوانا على الإسلام كما يأتي في قوله - تعالى - من هذه السورة ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ( 4 : 94 ) .
ومما ينبغي بيانه هنا أن بعض المسلمين يكرهون أن يحييهم غيرهم بلفظ السلام ، ويرون أنه لا ينبغي ، أي : يرون أنه لا ينبغي لغير المسلم أن يتأدب بشيء من آداب الإسلام ، وفاتهم أن الآداب الإسلامية إذا سرت في قوم يألفون المسلمين ويعرفون فضل دينهم ربما كان ذلك أجذب لهم إلى الإسلام ، رد السلام على غير المسلم ، وقد سئلت عن هذه الآية ، وآية النور ومن صفات المؤمن أنه يألف ويؤلف يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ( 24 : 27 ) ، هل السلام فيهما على إطلاقه وعمومه فيشمل المسلمين وغيرهم أم هو خاص بالمسلمين ؟ فأجبت في المجلد الخامس من المنار ( ص 583 - 685 ) بما نصه :
( ج ) إن [ ص: 255 ] وجذب بعضهم إلى بعض ليكون البشر كلهم إخوة ، الإسلام دين عام ومن مقاصده نشر آدابه وفضائله في الناس ولو بالتدريج ; لأن من سلم على أحد فقد أمنه ، فإذا فتك به بعد ذلك كان خائنا ناكثا للعهد ، وكان ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوة إفشاء السلام إلا مع المحاربين اليهود يسلمون على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرد عليهم السلام ، حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ : " السام " أي الموت ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجيبهم بقوله : " " ، وعليكم عائشة واحدا منهم يقول له : " السام عليكم " ، فقالت له : وعليك السام واللعنة ، فانتهرها النبي - عليه الصلاة والسلام - مبينا لها أن وسمعت وأن الموت علينا وعليهم ، وروي عن بعض الصحابة المسلم لا يكون فاحشا ولا سبابا أنهم كانوا يقولون للذمي : السلام عليك ، وعن كابن عباس من أئمة السلف أنه قال لنصراني سلم عليه : وعليك السلام ورحمة الله - تعالى - ، فقيل له في ذلك ، فقال : " أليس في رحمة الله يعيش " ، وفي حديث الشعبي الأمر بالسلام على من تعرف ومن لا تعرف ، وروى البخاري ابن المنذر عن الحسن أنه قال : فحيوا بأحسن منها للمسلمين ، أو ردوها لأهل الكتاب ، وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله ، وإن كان فيه ذكر الرحمة .
هذه لمعة مما روي عن السلف ثم جاء الخلف فاختلفوا في ، فقال كثيرون : إنهم لا يبدءون بالسلام لحديث ورد في ذلك ، وحملوا ما روي عن السلام على غير المسلم - رضي الله عنهما - على الحاجة أي : لا يسلم عليهم ابتداء إلا لحاجة ، وأما الرد فقال بعض الفقهاء : إنه واجب كرد سلام المسلم ، وقال بعضهم : إنه سنة وفي الخانية من كتب الحنفية : ولو سلم يهودي أو نصراني أو مجوسي فلا بأس بالرد ، وهذا يدل على أنه مباح عند هذا القائل لا واجب ولا مسنون مع أن السنة وردت به في الصحيح . ابن عباس
أما ما ورد من حق المسلم على المسلم فلا ينافي حق غيره ، : مطلق التحية ، وتأمين من تسلم عليه من الغدر والإيذاء وكل ما يسيء . فالسلام حق عام ويراد به أمران
وقد روى الطبراني والبيهقي من حديث أبي أمامة : ، وأكثر الأحاديث التي وردت في السلام عامة ، وذكر في بعضها " المسلم " كما ذكر في بعضها غيره كحديث إن الله - تعالى - جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا المذكور آنفا . الطبراني
أما جعل فعندي أن ذلك مطلوب ، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن تحية الإسلام عامة اليهود كانوا يسلمون على المسلمين فيردون عليهم ، فكان من تحريفهم ما كان سببا لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأمر المسلمين أن يردوا عليهم بلفظ : " وعليكم " حتى لا يكونوا مخدوعين للمحرفين ، ومن مقتضى القواعد أن الشيء يزول بزوال سببه ، ولم يرد أن [ ص: 256 ] أحدا من الصحابة نهى اليهود عن السلام ; لأنهم لم يكونوا ليحظروا على الناس آداب الإسلام ولكن خلف من بعدهم خلف أرادوا أن يمنعوا غير المسلم من كل شيء يعمله المسلم حتى من وظنوا أن هذا تعظيم للدين ، وصون له عن المخالفين ، وكلما زادوا بعدا عن حقيقة الإسلام زادوا إيغالا في هذا الضرب من التعظيم ، وإنهم ليشاهدون النظر في القرآن وقراءة الكتب المشتملة على آياته النصارى في هذا العصر يجتهدون بنشر دينهم ويوزعون كثيرا من كتبه على الناس مجانا ، ويعلمون أولاد المخالفين لهم في مدارسهم ليقربوهم من دينهم ، ويجتهدون في تحويل الناس إلى عاداتهم وشعائرهم ليقربوا من دينهم ، حتى إن الأوربيين فرحوا فرحا شديدا عندما وافقهم خديوي مصر " إسماعيل باشا " على استبدال التاريخ المسيحي بالتاريخ الهجري وعدوا هذا من آيات الفتح ، وترى القوم الآن يسعون في جعل يوم الأحد عيدا أسبوعيا للمسلمين يشاركون فيه النصارى بالبطالة ، ومع هذا كله نرى المسلمين لا يزالون يحبون منع غيرهم من الأخذ بآدابهم وعاداتهم ويزعمون أن هذا تعظيم للدين ، وكأن هذا التعظيم لا نهاية له إلا حجب هذا الدين عن العالمين ، إن هذا لهو البلاء المبين ، وسيرجعون عنه بعد حين اهـ .
هذا ما أفتينا به منذ بضع سنين ، وحديث عائشة المشار إليه في الفتوى رواه الشيخان في صحيحيهما ، والرد على أهل الكتاب بلفظ : " وعليكم " رواه الشيخان أيضا عن أنس ، ورويا عن عدم ابتدائنا إياهم بالسلام ، ولعل ذلك كان لأسباب خاصة اقتضاها ما كان بينهم وبين المسلمين من الحروب وكانوا هم المعتدين فيها ، روى أبي هريرة أحمد عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : عقبة بن عامر يهود فلا تبدءوهم بالسلام وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم ، فيظهر هنا أنه نهاهم أن يبدءوهم لأن السلام تأمين ، وما كان يحب أن يؤمنهم وهو غير آمن منهم لما تكرر من غدرهم ونكثهم للعهد معه ; فكان ترك السلام عليهم تخويفا لهم ليكونوا أقرب إلى المواتاة ، وقد نقل إني راكب غدا إلى النووي في شرح مسلم جواز ابتدائهم بالسلام عن ابن عباس وأبي أمامة وابن محيريز - رضي الله عنهم - قال وهو وجه لأصحابنا ، وعندي أن الحاجة إلى معرفة سبب الأحاديث لأجل فهم المراد منها أشد من الحاجة إلى معرفة سبب نزول القرآن ; لأن ، وفي الأحاديث ما ليس فيه من الأمور الخاصة ، والرأي الذي لم يقصد به أن يكون دينا ولا هداية عامة ولا أن يبلغ للناس ، فتوقف فهمها على معرفة أسبابها أظهر ، والذي [ ص: 257 ] عليه جماهير المسلمين في البلاد التي نعرفها ، أنهم يبدءون أهل الكتاب بغير السلام من أنواع التحية المعروفة بعد كتابة هذا راجعت ( زاد المعاد ) فإذا هو يقول في حديث النهي عن القرآن كله هداية عامة للناس يجب تبليغها " قيل : إن هذا كان في قضية خاصة لما ساروا إلى ابتداء أهل الكتاب بالسلام بني قريظة " ، وتردد في كونه حكما عاما لأهل الذمة أو خاصا بمن كانت حاله مثل حالهم ، وذكر خلاف السلف في المسألة بعد حديث مسلم المطلق في النهي عن الابتداء .
هذا وإن سنة مؤكدة عند الجمهور ، وقيل : واجب ، وأما رده فالجمهور على وجوبه ، وظاهر الآية أن ابتداء السلام واجب ، وليس الوجوب خاصا بتحية السلام ، ويكفي أن يسلم بعض الجماعة وأن يرد بعض من يلقى عليهم السلام ; لأن الجماعة لتضامنها واتحادها يقوم فيها الواحد مقام الجميع . رد كل تحية
والسنة : أن ، وإذا يسلم القادم على من يقدم عليهم . تلاقى الرجلان فالسنة أن يبدأ الكبير في السن أو القدر بالسلام
ومن آداب السلام ما ثبت في الصحيحين أنه " يسلم الراكب على الماشي ، والماشي على القاعد ، والقليل على الكثير " ، وروى البخاري ، سلام الصغير على الكبير ومسلم " أنه - صلى الله عليه وسلم - ، مر بصبيان فسلم عليهم " والترمذي " ، وقال بعض العلماء : المستحب أن " أنه مر بنسوة فأومأ بيده بالتسليم ، وكان - صلى الله عليه وسلم - يسلم على القوم عند المجيء وعند الانصراف ، ذكره يسلم الرجال على النساء المحارم مطلقا والعجائز الأجنبيات دون غيرهن ابن القيم في الهدي وقال : وكان يسلم بنفسه على من يواجهه ، ويحمل السلام لمن يريد السلام عليه من الغائبين عنه ، ويتحمل السلام لمن يبلغه إليه ، وإذا بلغه أحد السلام عن غيره يرد عليه وعلى المبلغ به ، وكان يبدأ من لقيه بالسلام ، وإذا سلم عليه أحد رد عليه مثل تحيته أو أفضل منها على الفور من غير تأخير إلا لعذر مثل حالة الصلاة وحالة قضاء الحاجة ، وكان يسمع المسلم عليه رده ، ولم يكن يرد بيده ولا رأسه ولا أصبعه إلا في الصلاة ، فإنه كان يرد إشارة ، ثبت عنه ذلك في عدة أحاديث ولم يجئ عنه ما يعارضها إلا بشيء باطل لا يصح عنه ، ( وذكر الحديث الذي يرويه أبو غطفان عن في إعادة صلاة من أشار إشارة تفهم ، أبي هريرة وأبو غطفان مجهول ) .
وورد في صفات المسلمين في حديث الصحيحين وكونه سبب الحب بينهم ، [ ص: 258 ] ومنها حديث : إفشاء السلام وصح ، إن أفضل الإسلام وخيره إطعام الطعام ، وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف ، رواه أفشوا السلام بينكم تحابوا الحاكم عن أبي موسى ، و ، رواه أفشوا السلام تسلموا في الأدب المفرد البخاري وأبو يعلى عن وابن حبان البراء ، وفي صحيح قال البخاري عمار : " ، فهذا من أدب الإسلام العالي الذي لا يكاد يجمعه غيره . ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالم ، والإنفاق من الإقتار "