[ ص: 192 ] لما بين تعالى في الآية السابقة ما أعده للكافرين الذين قامت عليهم الحجة فجحدوا بها ، أراد أن يبين في هذه الآية نصيب مقابل هؤلاء ، وهم الذين ظهر لهم الدليل فآمنوا ، ولاح لهم نور الهداية فاهتدوا ، فالكلام متصل بعضه ببعض . ولذلك عطف الجملة على ما قبلها ؛ لأنها متممة لفائدتها ، إذ لا بد بعد بيان جزاء الكافرين ، من ، والإرشاد ترهيب وترغيب ، والخطاب يصح أن يكون للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، وأن يكون عاما لكل من يسمع الأمر من أهله ، وقالوا : إن الأخير هو المعروف في لسان العرب ، والمفهوم عندهم من أمثال هذا الخطاب ، كقوله تعالى : ( بيان جزاء المؤمنين نبئ عبادي ) ( 15 : 49 ) وقوله : ( واضرب لهم مثلا ) ( 36 : 13 ) فهو في عمومه جار مجرى الأمثال ، والمخاطب الأول به هو الرسول على كل حال .
قال تعالى : ( وبشر الذين آمنوا ) ولم يذكر بماذا آمنوا ؛ لأن متعلق الإيمان كان معروفا عند المخاطبين ، وهو الله تعالى وصفاته التي ورد بها النقل الصريح ، وأثبتها العقل الصحيح ، والوحي ومن جاء به ، والبعث والجزاء ، فهذه هي الأصول التي كان يدعو إليها الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فمن صدقهم فيها كان مؤمنا ويصدق بما يتبع ذلك من التفصيل .
( قال الأستاذ ) : ولا بد في تحقيق الإيمان من اليقين ، ، ولا يقين إلا ببرهان قطعي لا يقبل الشك والارتياب ، وإن كان الإرشاد إليها سمعيا ، ولكن ( لا ينحصر البرهان العقلي المؤدي إلى اليقين في تلك الأدلة التي وضعها المتكلمون وسبقهم إلى كثير منها الفلاسفة الأقدمون ، وقلما تخلص مقدماتها من خلل ، أو تصح طرقها من علل ، بل قد يبلغ أمي علم اليقين بنظرة صادقة في ذلك الكون الذي بين يديه ، أو في نفسه إذا تجلت بغرائبها عليه ، وقد رأينا من أولئك الأميين ما لا يلحقه في يقينه آلاف من أولئك المتفننين ، الذين أفنوا أوقاتهم في تنقيح المقدمات وبناء البراهين ، وهم أسوأ حالا من أدنى المقلدين ) . ولا بد أن يكون البرهان على الألوهية والنبوة عقليا
( وأقول ) : كان الأستاذ قد أطلق اشتراط البرهان العقلي هنا كما أطلقه في مواضع أخرى تقدم بعضها والبحث فيه ، ثم قيده هنا بما بين به خطأ بعض المتكلمين في اشتراطهم البراهين المنطقية التي سموها قطعية على ما فيها من خلل وعلل ، والحق أن اطمئنان القلب بما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غير تردد ولا اضطراب كاف في النجاة في الآخرة ، وأن أفضل الأدلة ما أرشد إليه القرآن من النظر في آيات الله تعالى في الأنفس والآفاق ، فبداهة العقل فيه كافية عند سليم الفطرة الذي لم يبتل بشكوك الفلاسفة وجدليات المتكلمين ولا بتقليد المبطلين .
هذا وإن إطلاق الإيمان وذكر المؤمنين وما أعد لهم من غير وصله بذكر متعلقاته معهود [ ص: 193 ] في القرآن ؛ لأن المتعلق معلوم للسامعين كما قلنا ، وهو بالنسبة لمن لم يؤمنوا : ما دعاهم إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - إجمالا من الأصول ، وأما المؤمنون فقد عرفوه مفصلا تفصيلا .
ثم وصف المؤمنين الذين يستحقون البشارة بقوله : ( وعملوا الصالحات ) وأطلق في هذا أيضا كما أطلق في كثير من الآيات ؛ لأن العمل الصالح معروف عند الناس بالإجمال ، وذلك كاف في الترغيب فيه وجعله تابعا للإيمان متصلا به ولازما من لوازمه ، وبين الأعمال الصالحة بالتفصيل في آيات كثيرة كقوله تعالى : ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ) إلخ وكالآيات في أول سورة ( المؤمنون ) وآخرها وآخر سورة ( الفرقان ) وأوائل سورة ( المعارج ) وغير ذلك ، كأن الله تعالى يقول : إن العمل الصالح معروف عند الناس ؛ لأنه أودع في نفوسهم ما يميزون به بين الخير والشر ، ولكن بعضهم يضل بانحراف يطرأ على نفسه فيخرجها عن الاعتدال الفطري ثم يضل بضلاله آخرون ، فتكون التقاليد والعادات الناشئة عن هذا الضلال هي الميزان عند الضالين في معرفة الصلاح والفساد ، والخير والشر لا أصل الهداية الفطرية ، ولذلك قال - عليه الصلاة والسلام - : ( ( ) ) رواه الشيخان وغيرهما ، يعني أن كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، وقد بلغ فساد الطباع وانحراف الفطرة في بعض الأمم مبلغا كادوا يخرجون به عن طور البشر ، كمتنطعي البراهمة إذ ذهبوا إلى أن كمال الأرواح وسعادتها إنما هو في تعذيب الأبدان وحرمانها من لذاتها ؛ ولذلك جدوا في البعد عن اللذات الجسمانية بأنواعها فمالوا عن سنن الاعتدال ، ومنوا أبدانهم وعقولهم بالفساد والاعتلال ، وكبعض كفرة العرب وطائفة من الإنسان لو ترك ونفسه لاهتدى إلى الحق مادام بعيدا عن التقاليد والعادات البراهمة ، إذ زعموا أنه لا خير إلا في اللذة البدنية ولا شر إلا في الألم الجسداني ، فالسعادة والكمال عندهم في البعد عن الآلام البدنية ، والتمتع بالشهوات الحسية ، فمثل هؤلاء المرضى النفوس المحرومين من الكمال الروحي والعقلي كمثل من غلبت عليه الصفراء فصار يذوق الحلو مرا ، وإن من المرضى من يشتهي في طور النقه ما لا يشتهي في حال الصحة والاعتدال ، وكذلك الحبالى في مدة الوحم :
يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللئيم
فالخير والشر والصلاح والفساد والحق والباطل والفضيلة والرذيلة كل ذلك معروف في الجملة حتى عند الأشرار ، ولذلك يدعون الخير والصلاح وينكرون ما هم عليه ، فإطلاق القول بذكر الأعمال الصالحات ليس مبهما عندهم ، ولا خطابا بغير مفهوم ، وإنما يحتاج معتل الفطرة إلى التفصيل في ذلك ، وذكر الأمارات والدلائل التي تميز بين الصالحين والفاسقين ، والمحقين والمبطلين ، ولهذا نزلت آيات البيان والتفصيل التي أشرنا إلى بعضها آنفا ، وبها ينقطع تلبيس الأغبياء ، واعتذار الجهلاء ، وحق القول بأن الذي يستحق هذه البشارة هو من جمع [ ص: 194 ] بين الإيمان والعمل الصالح الذي ترشد إليه الفطرة السليمة ، ويهدي إلى تحديده الكتاب العزيز وسنة الرسول المتبعة .
بشرهم ( أن لهم جنات ) ورد لفظ الجنة والجنات كثيرا في مقابلة النار ، والجنة في اللغة : البستان ، والجنات جمعها ، وليس المراد بهما مفهومهما اللغوي فقط ، وإنما هما دارا الخلود في النشأة الآخرة ، ، فالجنة دار الأبرار والمتقين ، فنؤمن بهما بالغيب ولا نبحث في حقيقة أمرهما ، ولا نزيد على النصوص القطعية فيهما شيئا ؛ لأن عالم الغيب لا يجري فيه القياس . والنار دار الفجار والفاسقين
ومما وصف الله تعالى به الجنات قوله : ( تجري من تحتها الأنهار ) والمناسبة ظاهرة ، فإن البساتين حياتها بالأنهار ( قال شيخنا ) : ؟ الله أعلم بمراده ، وأقول : لو لم يرد في هذا المقام إلا ذكر الجنة أو الجنات لوجب التفويض وامتنع الترجيح ، أما وقد ذكر في آيات أخرى أنواع من الشجر المثمر وذكر الثمرات ، فقد تعين ترجيح الشق الثاني ، وإلا كان هربنا من تشبيه أسرى الألفاظ عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه ، إلى تأويلات الباطنية المعطلين لدلالتها من كل وجه . وهل سميت دار النعيم جنة وجنات على سبيل التشبيه وذكرت الأنهار ترشيحا له أم سميت بذلك ؛ لأنها مشتملة على الجنات تسمية للكل باسم البعض
ألم تر إلى ربك كيف ذكر من شأن أهل تلك الجنات فيها أنهم ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا ) كلمة " من " الأولى للابتداء والثانية للتبعيض ، أي كلما رزقوا من الجنات رزقا من بعض الثمار ( قالوا هذا الذي رزقنا من قبل ) أي هذا الذي وعدنا به في الدنيا جزاء على الإيمان والعمل الصالح ، فهو كقوله تعالى : ( وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء ) ( 39 : 74 ) وذهب الجلال وغيره إلى اختيار أن معناه تشبيه ثمرات الآخرة بثمرات الدنيا ؛ لأنها مثلها في اللون والشكل والرائحة ، وإن كانت تفضلها في الطعم واللذة فقوله تعالى : ( وأتوا به متشابها ) بيان لسبب القول على هذا التفسير ، أي أتوا بما ذكر من الرزق في الدنيا والآخرة متشابها بعضه يشبه بعضا ، ومحصله : أنهم عندما يؤتون برزق الجنة يبادرون إلى الحكم بأنه غير ما وعدوا به وأنه عين رزق الدنيا ؛ لأن التشابه يكون سبب الاشتباه عليهم ، ولكنهم يعرفون الفرق بعد ذلك بالطعم ؛ لأن فرقا عظيما بين لذة رزق الدنيا ورزق الجنة ، والتعبير بـ " كلما " ينافي هذا التفسير ؛ لأن الاشتباه إنما يكون في المرة الأولى ، ثم يعرفون التفاوت معرفة تذهب به وتمنع من الحكم بأن هذا عين ذاك ، أما بالنسبة لأفراد النوع الواحد من الثمار فبالاختيار ، وأما بالنسبة لما بعد النوع الأول من الأنواع فبالقياس عليه ، وما ذهب إليه الجلال مناف للبلاغة في المعنى أيضا ؛ لأن تشابه رزقي الدنيا والآخرة في الألوان والروائح ، واختلافه في الطعم فقط ليس فيه كبير تشويق ، [ ص: 195 ] لأن اللذة في التنقل ، ثم إن ، والتشويق للناس إنما يكون بحسب ما عهدوا واعتادوا وألفوا ، وإننا نعلم أن الأكل في الدنيا لأجل حفظ البنية من الانحلال ، أطوار الجنة مخالفة لأطوار الدنيا ، فلا بد أن يكون الأكل والشرب هناك على ما ورد لحكمة أخرى ، أو هو لتحصيل لذة لا نعرفها ؛ لأنها من أحوال عالم الغيب ، وإنما نؤمن بما ورد ونفوض أمر حقيقته وحكمته إلى الله تعالى ، ومما ورد أنه لذة أعلى من لذات الدنيا . ولا انحلال في دار الخلد والبقاء
أقول : بل قال - رضي الله عنهما - : ( ( ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسامي ) ) وفي حديث الصحيحين المرفوع عن الله - عز وجل - ( ( ابن عباس أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ) ) وهو تفسير قوله تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ) ( 32 : 17 ) .
وذهب بعض المفسرين إلى ما قلناه أولا من أن ذلك الرزق هو عين ما وعدوا به جزاء على أعمالهم ، فكلما رزقوا ثمرة منه يذكرون الوعد الإلهي شكرا لله على توفيقهم لذلك العمل الذي له أعد هذا الجزاء ، كما تفيده آية ( وقالوا الحمد لله ) التي ذكرناها آنفا ، فهو من قبيل ارتباط الموعود به بالموعود عليه كأن الأعمال عين الجزاء ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) ( 99 : 7 - 8 ) وقوله تعالى بعد ذلك : ( وأتوا به متشابها ) تأكيد وتقرير لما تضمنه قولهم ، وهذا هو الراجح الذي اختاره شيخنا ، وهنالك قول ثالث : وهو أن رزق الجنة وثمرها يتشابه على أهلها في صورته ، ويختلف في طعمه ولذته ، وهو المتبادر من اللفظ .
ثم قال : ( ولهم فيها أزواج مطهرة ) أي مبالغ في تطهيرهن وتزكيتهن فليس فيهن ما يعاب من خبث جسدي حتى ما هو في الدنيا طبيعي كالحيض والنفاس ، ولا نفسي كالمكر والكيد وسائر مساوئ الأخلاق ، لأنهن طهرن كل نوع من أنواع التطهير ، ونساء الجنات من المؤمنات الصالحات وهن المعروفات في القرآن بالحور العين ، وصحبة الأزواج في الآخرة كسائر شئونها الغيبية نؤمن بما أخبر به الله تعالى منها لا نزيد فيه ولا ننقص منه ، ولا نبحث في كيفيته ، وإنما نعرف بالإجمال أن أطوار الحياة الآخرة أعلى وأكمل من أطوار الحياة الدنيا كما تقدم ، ونحن نعلم أن الحكمة في لذة الأزواج بالمصاحبة الزوجية المخصوصة هي التناسل وإنماء النوع ، ولم يرد أن في الآخرة تناسلا ، فلا بد أن تكون لذة المصاحبة الزوجية هناك أعلى وحكمتها أسمى ، وأننا نؤمن بها ولا نبحث في حقيقتها كما تقدم في بحث رزق الجنة .
( أقول ) : هذا ملخص ما قاله الأستاذ على طريقته المثلى في الإيمان بالغيب من غير قياس لعالمه على عالم الشهادة ، وهو لا ينافي كون الإنسان في الآخرة يكون إنسانا لا ملكا ، [ ص: 196 ] وإنما تكون لذاته الإنسانية أكمل مما كان في الدنيا وأسلم من المنغصات ومنها الطعام والشراب والمباشرة الزوجية فتنبه ، وثبت في الحديث الصحيح : ( ( ولا يتفلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يتمخطون أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ) ) قالوا : فما بال الطعام ؟ قال : ( ( إن ) ) رواه جشاء ورشح كرشح المسك ، ويلهمون التسبيح والتحميد كما تلهمون النفس مسلم عن ، وفي معناه أحاديث أخرى ، وفي الصحيح أيضا ( ( جابر بن عبد الله ) ) - قال العلماء : إحداهن من نساء الدنيا والأخرى من نساء الجنة ، وما ورد من كثرتهن لا يصح منه شيء . إن لكل رجل في الجنة زوجين اثنتين
ثم قال : ( وهم فيها خالدون ) الخلود في اللغة : طول المكث ، ومن كلامهم خلد في السجن كما في الأساس ، وفي الشرع : الدوام الأبدي ، أي لا يخرجون منها ولا هي تفنى بهم فيزولوا بزوالها ، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها ، وفقنا الله لما يجعلنا من خيار أهلها من العلوم الصحيحة والأعمال الصالحة التي ترتقي بها الأرواح وتستعد لذلك الفلاح .